الدستور - 7 يوليو 2009 - نُشر أيضا في كتابي "شربة الحاج داود" و"الغث من القول"
Pixabay |
عندما كنا طلابًا، مشيت مع صديقي هذا في الكلية نتبادل عبارات المزاح.. كان في حالة من الانبساط والرغبة الشيطانية في العبث، عندما دنا منا ذلك الطالب المذعور يسألنا عما إذا كانت نتيجة البكالوريوس قد علقت.. قال صديقي: «لم تعلق بعد.. إنهم يقومون بتغييرها!». نظر له الطالب في عدم فهم، فقال صديقي في غموض: «ألم تفهم بعد؟ ابنة العميد ضمن الطلبة.. لا تكن ساذجًا كطفل! افهم!». أطلق الطالب المذعور سبة على غرار «آه يا بلد الـ..».. وانصرف يجري كالمجنون، بينما انفجر صديقي ضاحكًا.. لقد ولدت إشاعة قوية سوف تحتاج لوقت طويل حتى تتلاشى، ولسوف يرددها الجميع ناسين أن العميد - وقتها - ليس له أولاد على الإطلاق!!
خلاص لم أعد أتحمل المزيد من نظرية المؤامرة.. بلغت روحي الحلقوم، فلم أعد أطيق أن أرى واحدًا من هؤلاء الأذكياء الذين يضيقون عيونهم ويضحكون في غموض، ويقولون: «لا تكن ساذجا». كل شيء مؤامرة.. كل شيء تم التخطيط له من قبل وليس كما يبدو.. إن نظرية المؤامرة لذيذة جدا وتشعرنا بالتفوق على الآخرين السطحيين. تمطر السماء فينظر لك في حنكة وذكاء ويقول: «البلهاء يعتقدون أن هذا المطر طبيعي.. لا يعرفون أنها مؤامرة من الحكومة الأمريكية». وبالطبع في مناخ مرضي مظلم كالذي يعيشه العالم العربي تزدهر فطريات وطحالب وجراثيم نظرية المؤامرة جدا، حتى إنك قد تصاب بالعته لو واظبت لفترة على متابعة المنتديات الخليجية، والأكثر طرافة أن الكل يصدق ويشكر صاحب النظرية لأنه جعلهم يعرفون ما كانوا يجهلون.
منذ أعوام سادت العالم الغربي نظرية حمقاء عن أن الأمريكان لم يصلوا للقمر قط.. قالوا إن ناسا تلعب أكبر خدعة في التاريخ، وقد تبنى كثيرون في العالم العربي هذه الإشاعة حتى بدأت إشاعة أخرى تقضي بأن نيل أرمسترونج - أول من مشى على القمر - سمع صوت الأذان على القمر ثم سمعه بعد عودته للأرض فأسلم على الفور، وبالطبع تتكتم الحكومة الأمريكية هذه القصة. الطريف أن ذات المنتدى يضم الرأيين معا غالبا.. ترى هل مشى أرمسترونج على القمر فأسلم، أم لم يصل أحد للقمر أصلًا؟ والأظرف أن صاحب الموضوع لابد أن يكتب قائلًا: «نحن العرب سذج نصدق كل شيء وسهلو الخداع!». هذا كلام دقيق جدا، لكن ليس بالطريقة التي تريدها يا صاحبي.
إن إشاعة ناسا شهيرة على كل حال، وقد بدأت ببرنامج سخيف قدمته قناة فوكس الإخبارية عام 2001. يرى من صنعوا البرنامج أن صور الهبوط على القمر تم تصويرها في استوديو في قاعدة جوية في (سان برناردينو). مثلا انعكاسات الأشياء على زجاج قناع رواد الفضاء يوحي بوضع معكوس للعلم الأمريكي غير الموضع الذي غرس فيه فعلًا. العلم يرفرف مع النسيم فكيف يوجد نسيم على ظهر القمر؟ لا توجد أي نجوم في أي صورة التقطتها ناسا برغم أنه من المنطقي أن تزدان السماء بها متى غادرنا غلافنا الجوي. يقول المدافعون عن ناسا: إن هذا منطقي لأن ضوء الشمس يغمر سطح القمر ويحجب أي نجوم، والأمر يشبه خروجك من غرفة ساطعة الإضاءة إلى الليل.. عندها لن ترى أي نجم. قال المشككون: إن آثار المركبة القمرية واضحة ومحددة أكثر من اللازم، ولابد من خلط التربة بالماء لإحداث أثر كهذا.. الإجابة هي أن التربة القمرية ناعمة جدا كالدقيق تلتصق بالأحذية وترسم أي شكل يلتصق بها دون ماء.
كيف لم تحدث المركبة ثقبا تحتها عندما لمست تربة القمر؟ الإجابة هي أن مساحة القاعدة التي تمس التربة عريضة مما أدي لتوزيع الضغط وبالتالي صار الضغط عليها لا يتجاوز وزن رائد الفضاء ذاته، دعك من أن عدم وجود ثقب هو أقرب للتصديق من وجوده، لأنه كان بوسع ملفقي المشهد أن يصنعوا واحدا.
قال المشككون: إن أحد الجبال عليه حرف C بشكل واضح وإن هذه علامة تخص صاحب (العهدة) كما يكتبون (بيومي) على ظهر الكراسي عندنا.. الحقيقة أن هذا الحرف لم يوجد في الصورة الأصلية التي صار عمرها ثلاثين عاما، إنما في النسخ المستخدمة منها فهو مجرد عيب تحميض، أما النقطة الأهم التي يكررونها في كل مقالاتهم تقريبا فهي: كيف استطاع رواد الفضاء اختراق حزام (فان ألين) الإشعاعي القاتل المحيط بالأرض؟ الإجابة هي أنهم يجتازونه مرتين فقط أثناء المغادرة وأثناء الرحيل، وتكون سرعتهم خمسة وعشرين ألف ميل في الساعة لهذا يتعرضون له أقل من ساعة، وهذا لا يكفي إلا لإصابتهم ببعض الغثيان.
يتساءل البعض: لماذا لم ترسل ناسا رجالا آخرين للقمر منذ عام 1972؟ الإجابة هي أن العملية كانت مكلفة وخطرة.. وقد أرسلت ناسا 12 رجلًا بالفعل.. وأثبتت أنها قهرت الاتحاد السوفيتي. هذا يكفي.. خاصة أن تنفيذ نفس المهمات اليوم سوف يكون باهظا جدا بحساب التضخم.
من ضمن ما يقال كذلك إن عشرة رواد ماتوا أثناء مشروع أبوللو في ظروف غامضة لا تفسير لها في مركبات أو طائرات نفاثة، قالوا إنها حوادث متعمدة كي لا يتكلموا عن الفضيحة التي لمسوا أبعادها، السؤال هنا هو: لماذا تفعل ناسا هذا؟ وما مصلحتها؟ يجيب المشككون: إن الهدف بسيط جدا. لكي تحصل على 30 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب. ثم إن الحكومة الأمريكية كانت تعاني الويلات في فيتنام لذا أرادت أن تشغل الناس بموضوع آخر، ولو لاحظت التواريخ لوجدت أن تاريخ الخروج من فيتنام يتزامن مع توقف رحلات الهبوط على القمر بعد أبوللو 17، دعك من رغبة الحكومة الأمريكية في قهر السوفييت الذين كانوا يعملون بحماس مجنون للهدف ذاته، لهذا اخترعت هذا الهبوط لتدعي التفوق عليهم.
هكذا تنهال النظريات عندنا.. صدام لم يقبض عليه.. صدام قبض عليه في زمن غير الذي أعلنوه بدليل البلح.. صدام لم يعدم وإنما أعدم البديل (هناك كتاب كامل سميك عن هذا الموضوع على كل حال عند عم مدبولي يرحمه الله).. قاتل نادين ليس قاتل نادين.. وكل من يقبض عليه في أي جريمة ليس هو الفاعل.. ياسر عرفات ليس مريضا إنما هي خدعة.. الفراعنة لم يبنوا الأهرام وإنما قوم عاد.. مايكل جاكسون هو جيفارا لكن الحكومة الأمريكية تخفي ذلك.. فيروس سي أكذوبة ولا وجود له وإنما اخترعته شركات الإنترفيرون.
أما أحدث النظريات فهي كون إنفلونزا الخنازير مؤامرة بيولوجية رتبتها شركات الأدوية، وديك تشيني صاحب نصيب الأسد من أسهم التاميفلو، الجيش الأمريكي يحقق سرا في عينات فيروسية سرقت من المختبر الرئيسي الذي يحوي عينات من الأنتراكس والإيبولا، وهناك مجرم معروف هو (بروس إيرفينز) الباحث وخبير الأمصال في فورت دتريك بماريلاند الذي اتهمه الجيش الأمريكي رسميا بإرسال ميكروب الجمرة الخبيثة لأعضاء الكونجرس عام 2001، هذا المجرم انتحر قبل المحاكمة، مما جعل الجميع يعتقد أن هناك مؤامرة أكبر.
بالطبع تنفي منظمة الصحة العالمية هذه الإشاعة تماما. هناك فيروس معروف والجميع كان يتوقع أن يصحو في هذه الأيام بالذات طبقا لساعة الوباء التي حددها علماء الوبائيات، ثم إن ضحاياه الذين ماتوا قليلون، وهذا لا يتفق مع الأسلحة البيولوجية التي يجب أن تكون فعالة جدا في القتل.
لكن أصحاب نظرية المؤامرة لا يتعبون ولا يخجلون.. سوف ينسون هذا الموضوع ويبدعون في تبني نظرية جديدة.. شعارهم هو: لا تكن ساذجًا.. أنت أذكى من ذلك. كما ترى فالغرب يملك نظريات مؤامرة مثلنا، لكنه يتعامل معها بحجمها الحقيقي ولا يجعلها أسلوب حياة كما نفعل نحن. لكننا بالفعل نعاني مشكلة مع التذاكي واحتكار الحقيقة.