الدستور - 28 يوليو 2009
عمرو عبد الله دلش - The Venice of Egypt |
كان أبي، يرحمه الله، يحمل للاصطياف ألف همّ، ويبدو أنني ورثت عنه هذا الاعتقاد حتى لو نحينا الأسباب الاقتصادية جانبًا.. إن الاصطياف عبء نفسي ومعنوي وجسدي لا يمكن تحمله.
لم أذهب إلى الإسكندرية هذا الصيف، لكن بعض أعمالي أرغمتني على أن أكون هناك في شهر يوليو، فمشيت وسط زحام مروع.. الرطوبة عالية جدًا.. حرارة الأنفاس تذيب نسيج ثيابي الصناعي.. لا توجد نسمة هواء.. لا يوجد موطئ قدم، حتى إنني جرؤت على أن أقارن هذا المشهد بميدان رمسيس ساعة الذروة، وكانت المقارنة – يا للعجب – في صالح ميدان رمسيس.
إسكندرية حارة جدًا.. حقيقة غريبة لكنها حقيقة.
في المساء تحول شارع الكورنيش إلى جحيم من العرق والصخب واللزوجة والضوضاء، كأنك في قلب مظاهرة في الصين لو كانت الصين تسمح بالمظاهرات.. سيارات تحتك ببعضها ومليون مشاجرة.. و«يا صنف واطي.. أنا حعرفك أنا مين».. و«احترم نفسك يا حيوان».. مع سيمفونية من صوت عال جدًا لامرأة تحترف إشعال النيران في المشاجرات، وتعرف كيف تجعل زوجها يرتكب جريمة ثم تعود للصراخ لأنها تفتقده بشدة منذ دخل السجن.. مئات الشباب يتشاجرون من أجل (البت فيفي) وعلى الرصيف الآخر البت فيفي ذاتها مع (بيسة) و(كوكي) يأكلن الأيس كريم ويتظاهرن بأنهن فاتنات.
رحت أرمق الناس الواقفين في الشرفات ساعة العصر.. رجل عار الجذع والمنشفة على كتفيه، يبدو الملل والضيق على وجهه.. يستند على سور الشاليه، ثم يغلبه الإرهاق والحر فينام بالعرض على السور وهو يتلوى.. قلت لنفسي: «هل هذا منظر بشر سعداء؟ والله العظيم هؤلاء تعساء! إنهم التعاسة ذاتها!».
رأيي الدائم هو أن الاصطياف عادة سخيفة يمارسها الناس لأن الناس يمارسونها.. أنظر لعيون الناس المصطافين فأشعر بأنهم يموتون شوقًا من أجل العودة لديارهم وأنهم يشتهون الخلاص فعلًا، لكن الاصطياف شيء كالموت.. لابد من قبوله والخضوع له لأنه أقوي منا جميعًا ولا يبالي بما نريد.
أما عن الشط نفسه فكارثة وحدها.. هناك صديقة سكندرية ظريفة قالت لي إن هناك مصيبتين في حياتها: الكرات الحمراء وهي تتحدث عن تأثير الشمس الحارقة على عينها؛ حيث ترى كرات حمراء في كل مكان، والكارثة الأخري محاولة جعل كرسي الشاطئ اللعين يستقر على الرمال ولا ينقلب بها.. ويبدو أن الاصطياف بالنسبة لها لا يعني سوي هذا الصراع.
أنا من الناس شديدي الحساسية والتذوق للجمال، لهذا يندر أن ألبس ثياب البحر، لأنني أؤمن أن عليك أن تكشف عن عضلات رشيقة كأنك أبوللو قد قرر أن يزور مصر.. أما أن تكشف عن جسد مترهل شبيه بأفراس النهر فهذا ما لن أفعله أبدًا.
لكن الوضع هنا يختلف.. المصطافون كشفوا عن أجساد مترهلة خالية من الجمال والقوة والرشاقة، ثم ينزل الواحد منهم بتؤدة ووقار كفرس النهر إلى البحر، كأنه ذاهب لتحقيق فرصة مصر الوحيدة في الأولمبياد، وحتى لأوشك أن أسمع صوت مقدم برنامج عالم الحيوان الرخيم، أو المارش الجميل المميز لقناة ناشونال جيوجرافيكس.. يسبح سباحة الكلاب حيث لا تترك قدماه الأرض لحظة واحدة، وهنا تكتشف حقيقة مروعة أخرى: لا أحد يجيد السباحة تقريبًا.. إنهم يجيدون المشي على الرمال المبتلة فقط.. لدرجة أن كثيرين منهم ينزلون البحر بلفافة تبغ مشتعلة بين الشفتين.
ثم يصعد الرجل بذات الوقار ليتمرغ كالحمر الوحشية في الرمال.. وينام ساعة ثم ينهض ليتشاجر ساعة أخرى: «يا صنف واطي.. أنا حعرفك أنا مين» .. و«احترم نفسك يا حيوان». بعدها يشعر بالسعادة وأنه أنجز كل شيء.. إنه جائع ويريد التهام عدة أسماك قبل موعد الشجار الليلي على الكورنيش.
على كل حال أنا أعرف نمط هذا المصطاف.. يمكنني أن أحكي لك باقي قصة حياته:
1- يمكن أن يسافر لبلد آخر كي يرى الببغاء في حديقة الحيوان ويقول له: أبوك السقا مات.
2- هو كذلك يرى أن القردة ظريفة جدًا، وخاصة لو رمى لها مسامير بدلًا من الفول السوداني.
3- ولابد أن عنده في البيت أكثر من صورة بالطربوش جالسًا منتفخًا وزوجته تقف خلفه حاملة الشيشة، لأنه يرى أن (سي السيد) ظريف جدًا كذلك.
في الساحل الشمالي يضاف لهذا النمط نمط آخر معروف.. كاميرا الفيديو وبراد الماء البلاستيكي الذي يصرون على تسميته (جوتّ).. ثم: «عندنا في (أبها) الجو أحسن من كده».. «الميه نضيفة عندنا في (جدة)».. «أيام ما كنت في القصيم كنت بحط المية في المبردة وأعمل بنشر وأحط بترول في السيارة».. «الكفيل اتصل بيا وقال أول أيام الدوام السبت 18».. وأسماء الأولاد نفسها مميزة (نزار).. (جاسم).. (عدنان).. فلولا عدم التعود لأطلق على ابنته (موزة).
كان صديقي يلح في دعوتي لأمضي يومًا معه في ذلك المصيف الجميل في الساحل الشمالي. وقد ذهبت له ذات يوم، فلم أجد زحامًا، لكن الشمس كانت توشك على ثقب رأسي.. أعتقد أن قميصي سيحترق لو وقفت عشر دقائق كاملة في ذات المكان. في الشاليه الصغير الذي يقيم فيه توجد مروحة تعسة لا تفعل أي شيء سوى توزيع النيران، وزوجته في حالة إغماء مستمرة تفيق منها للحظات لتقول لي: (نورت يا دكتور)، ثم تفقد وعيها بسبب الحر من جديد.. صديقي غارق في العرق ويلهث مخرجًا لسانه لكنه مصر على أنه سعيد.. فكرتي عن الاصطياف هي مكان هادئ وبحر وأنسام.. ربما تلك الصورة الشاعرية القديمة لمحمد فوزي وهو يمشي بين الشاليهات ليلًا مغنيًا، فتنصت له الحسان وخصوصًا مديحة يسري.. صورة تختلف نوعًا عن «يا صنف واطي.. أنا حعرفك أنا مين».. و«احترم نفسك يا حيوان».
لكن هذه الصورة مستحيلة فعلًا، ربما لا يظفر بها سوى (مراد بيه) الذي استولى على أراضي الدولة، أو (رمزي بيه) الذي يقضي الصيف كله في (كوت دازور) لأن مصايف مصر بيئة.
يبقى البديل الوحيد هو أن تقبع في بيتك حتى الشتاء، وفي الشتاء تصير الإسكندرية كائنًا ساحرًا آخر.. وهذا يعني أن كلمة اصطياف ذاتها قد محيت من القاموس. أعتقد أنك ستفهمني إلا إذا كنت ترى أن (سي السيد) ظريف جدًا.. عندها يمكنك أن تتجاهل هذا المقال تمامًا.