انتهت مباراة مصر والجزائر منذ دقائق واشتعلت الشوارع في طنطا، حتي صار من المستحيل أن تتمكن ذبابة من عبور الشارع. الحمد لله أن منح هذه الفرحة المستحقة للشعب المصري، بعد ما صار شعار المباراة هو النصر أو الشهادة، حتي توقعت أن أسمع التوجيه المعنوي الذي كتبه هيكل للجيش قبل بدء المباراة. صحيح أننا لم نذهب لكأس العالم بعد، لكن كما يقول الغربيون: «ما زلنا في اللعبة». كنا جميعًا في الدقائق الأخيرة قد تأهبنا لابتلاع مرارة الخروج، فتغير كل شيء. فقط لو فعلها بركات في الثانية الأخيرة لدخل التاريخ من أوسع أبوابه. لا أفهم في كرة القدم لكني متأكد من أن لدينا مشكلة خطيرة في الاختراق والوصول للمرمي، بينما هم اختراقاتهم قاتلة فعلاً
نعود للمواضيع الكئيبة المعتادة
كانت السينما المصرية دائمًا مواكبة لذوق الجماهير لكنها تصنعه كذلك. إنها تتبع المجتمع لكنها تقوده في الوقت ذاته، وهي علاقة غريبة فعلاً. في الستينيات عندما كان الموظف قمة السلم الاجتماعي كان هو بطل وزبون الأفلام العربية، ويجب أن نذكر كذلك أن كل بيت سينمائي كان فيه بار. يعود الرجل مرهقًا من الخارج فتسأله زوجته «تاخد كاس؟»، ويبدو أنهم كانوا يتعاملون مع الخمر تعاملنا مع السجائر: «ماحبش الراجل اللي بيشرب». تقولها شادية لرشدي أباظة الذي سقطت خصلة من الشعر المعجون بالعرق علي جبهته
بدأ السلم الاجتماعي يتغير، وصار زبون السينما هو الحرفي والسباك. هنا ظهر الحشيش في الأفلام بكثافة وصارت الجوزة من لوازم كل فيلم. كل أفلام هذه الفترة لا تكاد ترى شيئًا في كادراتها من الدخان الأزرق، لدرجة أن إكسسوارات فيلم «بنت تحية عزوز» شكلت أحرازًا لقضية مخدرات كاملة عندما ضبطتها الشرطة. ونادية الجندي المعلمة بالجلباب اللامع تتغزل في الجوزة : «جوزة من الهند ومركب عليها غاب». فيرد الحشاشون: «حصل لنا التلبس.. هع هع هع». أضف لهذا نكتة أو نكتتين عن ليلة الخميس والكوارع والركب ليكتمل جو الثمانينيات. وأضف كذلك محمود عبد العزيز بطل الفيلم الظريف، وهو يضحك ضحكته الشهيرة وعيناه شبه مغمضتين، والدخان يتصاعد من فمه المفتوح. لا ننكر هنا كذلك أن المد الديني في السبعينيات جعل الناس تبحث عن مخدر لم يحرم صراحة دينيًا، وهكذا ظهر مبدأ أن الحشيش لم يُحرم في القرآن بينما الخمر حُرمت، وهو منطق ناقشه فيلم العار ببراعة وأمانة
مع الوقت بدأت السينما تتملق الشاب «الروش» الطالب زبون المول.. هنا تكرس سينما الشباب مفهومين مهمين هما البانجو والبيرة. أي شاب طبيعي لابد أن يدخن البانجو ويشرب البيرة مع ظهور البرشام في أفلام عديدة. لا يوجد فرح شعبي في أي فيلم جديد من دون بانجو وبيرة، ولا أفشي سرًا إذا قلت إن معظم القرى حول مدينتي تعلمت هذا المفهوم الجديد، وصار البانجو من أساليب نقوط العريسين المحترمة. لو لاحظت لوجدت معظم هذه الأفلام تظهر مدمن البانجو كشخص ظريف حبوب لا يمكن الاستغناء عنه. قد تكون هذه الأفلام مرآة المجتمع لكنها كذلك تصنعه، وهي علاقة معقدة فعلاً
الحشيش.. البانجو.. الماريجوانا.. القنب الهندي.. المخدرات. لا أبالغ لو اعتقدت أن كل جريمة في مصر تتم اليوم تحت تأثير المخدرات أو طلبًا لثمنها.. كل حادث.. كل إهمال.. كل اغتصاب.. كل سرقة.. كل مشاجرة
لماذا تذكرت هذا الموضوع الآن ؟
إنه ذلك الخبر في الصحف عن نتائج تحليل دم سائق القطار 152 الذي كان متوقفًا بين محطتي الرقة وكفر عمار في حادث العياط الشهير. الرجل تعاطي الحشيش قبل وأثناء قيادته القطار، أما سائق القطار 188 فقد عطل الجزرة المسئولة عن توقيف القطار. هناك جهاز أوتوماتيكي في القطار استشعر وجود العطل وخفض سرعة القطار من 129 كيلومترًا إلي 67 كيلومترًا، وهو ما منع كارثة ذات أبعاد كونية، لكنه لم يستطع التوقف بالكامل. من جديد الجزرة التي تسبب كل حوادث القطارات في مصر، والتي يبدو أنها مصرة علي القضاء علينا
طبعًا موضوع التغيرات العديدة في الشخصية المصرية قُتل بحثًا، لكننا هنا نتكلم عن الحشيش بالذات.. اللجنة المشكلة من أساتذة الهندسة ونائب رئيس هيئة السكة الحديد وخبير من وزارة النقل اكتشفت أن جهاز اللاسلكي الخاص بالسائق سليم، لكنه لم يستعمله قط في النداء علي عاملي الأبراج القريبين منه أو القيادة المركزية
فتش عن المخدرات.. فتش عن المزاج.. فتش عن الدماغ التي ينفق عليها المصريون كل هذه المبالغ كأنها دماغ «إنريكو فيرمي» ذاتها . الناس تشتري الحشيش والبرشام وتزرع البانجو.. بينما بعض الصيادلة المنحرفين يفتشون بنهم في مجلدات الفارماكوبيا عن عقاقير جديدة تصلح. متي اكتشف المدمنون أن أدوية السعال تحوي جرعة ممتازة من الكودايين؟.. بالطبع أخبرهم صيدلي بذلك، ومن اكتشف أن الترامادول يصلح لعمل «دماغ»؟.. أنا أتهم بعض الصيادلة المنحرفين، وأتهم كذلك بعض المحامين معدومي الضمير الذين تخصصوا في إخراج كل تاجر مخدرات من السجن «كالشعرة من العجين» بسبب أخطاء الإجراءات. لهذا السبب لم تجلب عقوبة إعدام تجار المخدرات مردودًا واضحًا. أتهم كذلك المعتقد الشائع أن المخدرات مقوية جنسيًا وهذا سبب قوي جدًا للتعاطي لدى شريحة كبيرة من الطبقات الفقيرة.. يجب أن نزيل هذا الوهم عن الأذهان
لقد غيرت المخدرات وجه مصر وسوف تغير مستقبلها بلا شك
الأرقام متضاربة جدًا لكنها مرعبة دائمًا.. في مصر يمكنك التعامل مع الأمور بطريقة (قليل - متوسط - زائد)، كأنك طبيب يصر علي قياس حرارة المريض بظهر يده. يقولون إن حجم تجارة المواد المخدرة بلغ نحو 18.2 مليار جنيه في عام واحد. ما يتم إنفاقه علي المواد المخدرة تصل نسبته إلي 2.5 في المائة من عوائد الدخل القومي، أو هو نحو 79.5 في المائة من دخل قناة السويس، و32.8 في المائة من عائدات الصادرات المصرية و41.3 في المائة من عائد السياحة و46.9 في المائة من تحويلات المصريين بالخارج . معني هذا أننا ننفق علي المزاج العالي كل دخل قناة السويس تقريبًا ونصف ما يأتي من السياحة. الحكومة المصرية تقدر نسبة ما يباد أو يصادر من المخدرات بـ 30% من الكمية الإجمالية وهي نسبة معروفة عالميًا علي كل حال لا يمكن تجاوزها. الخبر الجميل هو أن الكميات التي تُضبط تزداد لكن سعر البانجو لم يتأثر مما يعني زيادة حقيقية في الإنتاج
من الأشياء التي لم أكن أعرفها أن عقار «الاكستازي» يتزايد في مصر، وأن عقار الروهيبنول موجود عندنا. الروهيبنول مشهور جدًا في الخارج لأنهم يسمونه بعقار الاغتصاب.. حيث يدسه الشاب للفتاة في الشراب فلا تعرف أي شيء عما يجري لها. تخيل ما قد يسببه هذا العقار في مجتمعنا
بين كل مائة شاب هناك 16 يجربون المخدرات، وهناك 4 من هؤلاء يدمنون. عدد مدمني الهيروين في مصر يتراوح بين 20 و30 ألفًا
المخدرات تتزايد بلا شك.. تعرف هذه الحقيقة وأنت ترى هذه العيون المحمرة المنتفخة والنظرة الرخوة الثقيلة في كل مكان. ولسوف تتزايد مع الضغوط الاجتماعية والبطالة والآباء المقيمين بالخارج مكتفين بمنح أولادهم المال، وتزايد معدلات الطلاق والتفسخ الأسري، ولسوف نقابل أكثر من سائق قطار لم يضع الجزرة في السنين المقبلة. ما أعرفه أنا هو أنني سأكتب عن هذا الموضوع مرارًا، وسأراقب أولادي جيدًا جدًا داعيًا الله أن يحفظهم من تجربة سيجارة البانجو الأولي أو قرص الإكستازي الأول، إلي أن تقضي الحكومة -بعون الله- على البطالة والفقر والمرض والجهل وتجارة المخدرات