من جديد بدأت موجة موسمية من الهجوم علي هيكل، مرة بسبب اقتراح وجيه ذكره عن تشكيل مجلس أمناء يشرف علي تعديل الدستور، وهو اقتراح جدير بالمناقشة، لكنه ضغط أكثر من اللازم علي أعصاب من يهمهم أن يبقي كل شيء كما هو، فالحياة باسمة والمستقبل واعد والمكاسب عال عال والأشيا معدن. هكذا خرج من يتهم الرجل بأنه عجوز مخرف وأنه يدعو للفوضى و .. و.. ومعهم كل الحق. هذا الرجل يريد أن يحرمهم من كل ما حققوه ويريد أن يضع الكلابشات في أيديهم . كل الناس تعتنق شعار (يا واخد قوتي يا ناوي علي موتي) بدءًا بسائق التاكسي وانتهاء بهؤلاء الذين يمزقون (هيكل) في صحفهم، وهو ليس بالشعار السيئ، لكن لماذا يأخذون قوتي وقوت أولادي كذلك؟
جاءتهم هدية أخرى مع كلمات ضيف بريطاني وصف حرب أكتوبر بأنها هزيمة، وقيل إنه قال هذا جوار هيكل، فظل الأخير صامتًا كما صمت السادات من قبل وراح يمضغ الغليون بينما بيجين يؤكد أن أجداده هم بناة الأهرام. كلام البريطاني مستفز ضيق الأفق لكنه يلخص الانطباع الغربي عامة، ويمكنك أن تبحث عن (حرب كيبور) علي شبكة الإنترنت لتعرف أن الرجل يردد ما يقوله الغربيون. رأي الرجل لن يغير الحقائق لو كنا انتصرنا، وانفعالنا لن يغير الحقائق لو كنا هزمنا، والأهم أنهم أغفلوا ذكر اعتراض هيكل علي ما قاله الرجل .. هيكل اعترض وأرغم الرجل علي تخفيف لهجته، لكن ذكر حقيقة كهذه لا يفيدهم في شيء. شعار المرحلة هو (اشتم هيكل) .. هذه هي مسوغات قبولك وصعودك لدى الحكومة
لما كان عيد التهام هيكل قد عاد من جديد - أعاده الله علي الأمة العربية بالخير - فإنني أطلب إذنك في إعادة نشر مقال لي، أري أنه يعبر عن كل ما أريد قوله
هذه الليلة سوف أدعوك علي العشاء .. صحيح أن الكثيرين سبقوك ولسوف تكون كالأيتام علي مآدب اللئام، ولكن بوسعك دومًا أن تظفر بلقيمة ما .. هات معك سلاطة الطحينة ورغيفين من الخبز، ولا بأس بشوكة وسكين لو كنت ممن يحرصون علي الإتيكيت
إن المأدبة فريدة وقد أقامها عدد من الكتاب منذ زمن بعيد، والطبق الرئيس هو كاتبنا الكبير (محمد حسنين هيكل). هناك حفل دائم منعقد لتمزيق الرجل وتشويه سمعته وتشكيك الأجيال الجديدة في قيمته
هيكل ليس ملاكًا وبالتأكيد ليس صنمًا يُعبد، لكنه كذلك ليس مصدر كل مشاكل مصر الحالية، ولم يسبب تصادم القطارات وإنفلونزا الخنازير وهبوط البورصة . الرجل كذلك لا يهوى أن يضيع وقته وتتسخ ثيابه الأنيقة وسط الغبار في معارك لا منتصر فيها ولا مجد. حضرت ثلاث ندوات له في معرض الكتاب بالقاهرة، ورأيت تأثيره المغناطيسي الغريب في الحضور، لكني كذلك رأيت طريقته .. كان هناك شاب متحمس مبلل بالعرق يصرخ في جنون لسبب لم أفهمه .. وهو يطلق عبارات الهجوم المختلطة باللعاب في وجه هيكل علي بعد خمسين سنتيمترًا أو أكثر قليلاً. لكن هذا الأخير لا ينظر نحوه ولا يعلق أو يندهش أو يغضب أو يخاف .. أنت غير موجود .. أنت لا شيء ما دمت اتخذت الصراخ أسلوبًا والهستيريا قانونًا .. ويبدو أنه مخلص لهذا الأسلوب جدًا لهذا لا أتوقع أن يرد علي هذه المأدبة التي دعا الآخرون أنفسهم لها
الاتهام الدائم الذي يلاحق هيكل هو أن قربه من عبد الناصر أعطاه ما لا يستحق من مكانة، وهذا كلام لا بأس به، لكن لماذا يبقي الرجل طافيًا بعد كل هذه الأعوام ومنذ ابتعد عن السلطة عام 1975 ؟.. هل سلطة عبد الناصر كاسحة لهذا الحد وتتجاوز الأزمان والمسافات، لدرجة أنها قادرة علي إرغام الناشرين الأجانب علي ملاحقة الرجل ؟.. من ضمن الاتهامات التي وجهت له عندما سجنه السادات وصار غير قادر علي الرد تهمة أنه يبيع الكلمة بدولار. لو صح هذا فلماذا يشتري الناشر الأجنبي الكلمة بدولار ؟.. لأنها تستحق ذلك
الحقيقة ببساطة هي أن هيكل يستفزهم؛ لأنه برهن علي أنه قادر علي النجاح من دون عبد الناصر وفي مواضيع بعيدة عن عبد الناصر.. كتب عن ثورة إيران وعن الشاه وعن ملك إسبانيا وعن كلينتون وبوش وثاتشر و.. وما يدور خلف أبواب البيت الأبيض المغلقة .. لو قرأت كتاب (إيران علي حافة البركان) الذي كتبه هيكل قبل الثورة وقبل لقاء عبد الناصر وقبل كل شيء، لعرفت لماذا استحق الرجل كل هذا المجد
إن هيكل ببساطة إهانة لهؤلاء بثقافته الواسعة وسعة تجربته.. لم يغفروا له قط هذا النجاح كما لم يغفروا له أنه بصحة طيبة - أعطاه الله طول العمر - وما زال تفكيره ممنطقًا مرتبًا وقد حسبوا أنهم تخلصوا منه فعلاً. لكنه اليوم يجلس أمام الكاميرا ليتكلم بالتفصيل، وكلامه بالغ الأهمية سواء صدقت كل شيء أم مارست الانتقاء، لكنهم ببساطة لا يريدون له أن يتكلم اليوم ولا غدًا، لدرجة أن أحد منتقديه كتب يقول (أستاذ هيكل ، لقد أكثرت ولم نعد نطيق حديثك .... لماذا لا تسكت أو تتنحي كما تنحي صديقك؟ وكفى). والسؤال هو :لمن ضمير المتكلم هنا ؟ .. لماذا لا تتكلم عن نفسك من فضلك ؟
إن هؤلاء السادة لا يقرأون كما هو واضح .. فقط هم يعيشون وسط أبخرة الحقد الصاعدة للرءوس ومئات الكتب غير الموثقة التي تحكي كلامًا علي غرار (كنت جالسًا مع سيد الشماشرجي عندما دخل علينا عبد الحميد جودة .. هناك كاذبون يزعمون أنني كنت جالسًا مع الششماوي، لكن هؤلاء مغرضون يتلقون مالاً من الخارج)ـ
علي عكس مما يقول الكثيرون قدم هيكل كتاب (بين الصحافة والسياسة) الذي يحكي بالتفصيل وبالوثائق قصة اتهام مصطفي أمين بالتجسس، قدمه في حياة الرجل وحياة أطراف كثيرة، داعيًا من يملك أن يسكته أن يرد .. بدا لحظتها كفارس يدور حول الأسوار طالبًا أن ينزل له أحد الكماة أو الصناديد للنزال، لكن أحدًا لم ينزل مفضلين ترك الأمور تنسي من تلقاء نفسها . تهمة العمالة جاهزة وسهلة جدًا؛ لأنه لا يوجد شرفاء في رأي هؤلاء القوم، فلابد أن هيكل قد دفع لي ثمن مقالي هذا
يقول ذلك الموقع كذلك : «مشكلة هيكل الأساسية علي الصعيد المهني أنه اعتمد في بناء مجده وخبرته المهنية علي شراكته غير المعلنة لعبد الناصر........... غير أن هذا بالضبط ما كان سببا للضعف المهني لهيكل ، لأن اعتياده علي الحصول علي المعلومة الخطيرة والسهلة أورثه الكسل الذهني وضعف عملية المران في التحليل السياسي، وحتي الآن إذا حاول اقتحام أي مشكل مصري داخلي أو عالمي جديد لتحليله أو طرح رؤيته تجاهه أتي بالعجائب المثيرة للسخرية ، مثل حديثه المضحك عن مرتكبي أحداث سبتمبر بأنهم ناشطون من الصرب ». أنت رأيت وقرأت (هيكل) .. تكلم كما شئت عن الصدق أو الأمانة في العرض، لكن هل هذا رجل (كسول ذهنيًا وضعيف في التحليل السياسي ) حقًا ؟... علي فكرة كلامه عن أحداث سبتمبر هو نقل لما كان يدور في أوساط أوروبية وليس كلامه هو، ثم يقول ذات الموقع ( وعندما صدرت مجلة وجهات نظر وجرب أن يكتب فيها مقالا شهريا تحليليا كشف ضحالته الشديدة في هذا المجال).. هل حقًا قرأت مقالاته في وجهات نظر يا أستاذ ؟.. قلها بأمانة ..هذه المقالات تعتبر ذروة نضج هيكل واكتمال رؤيته للعالم، ولا يجب أن يكون عدوك ضحلاً لأنه عدوك
أما عن برنامج هيكل الأسبوعي في قناة الجزيرة - والكلام لرئيس تحرير ذات الموقع - فقد تصور الرجل (أنه سيقيم الدنيا ولن يقعدها، غير أن البرنامج مر عليه سنوات وهو «بارد» و«عادي» وقريب الشبه بالبرنامج التليفزيوني الشعبي حكاوي القهاوي). هل حقًا تصور هيكل أن برنامجه سيقيم الدنيا ولا يقعدها وأن الشوارع ستخلو ساعة إذاعة البرنامج وتغيب الفتيات عن وعيهن ويتشنج الرجال من التواجد ؟... لا أعتقد أنه بهذه السذاجة .. البرنامج تحليل عقلاني هادئ للتاريخ كما رآه، فشاهده يا أخي أو غيِّر القناة .. أنت حر
طبعًا تنهمر التعليقات المؤيدة حتي تحسب أن مصر كلها صارت رجلاً واحدًا يتمني إعدام هيكل في ميدان عام.. هذا مطلب جماهيري إذن. أرسلت ثلاثة تعليقات تنصف (هيكل) بثلاثة أسماء مختلفة فلم ينشر حرف منها بالطبع
قلت لك إنها مأدبة .. مأدبة ممتازة والدعوة عامة .. فقط عليك أن تثبت أن لديك أسنانًا حدادًا وقدرًا لا بأس به من الغل والحقد المهني، وقدرة علي قلب الحقائق واتهام الشرفاء بالعمالة والموهوبين بالسطحية ... فقط تعال تجد ما يسرك