كانت قناة الجزيرة تعرض على الهواء أحداثًا غريبة في ذلك اليوم: وزير خارجية مصر (أحمد ماهر) يزور الحرم القدسي .. منذ لحظة دخوله الحرم راح أحدهم – حماسي الهيئة واللهجة – يهتف في مكبر الصوت:
ـ"لا أهلاً بك ولا سهلاً... عد إلى أسيادك الصهاينة ولا تدنس هذا الحرم"
وبدأت الأحداث تتخذ منحى خطيرًا عندما تزاحم الغاضبون حول الوزير المسن، فصنع حراسه طوقًا حوله بأجسادهم ورأيت على وجهه أمارات الاختناق من فرط الانفعال ونقص الأكسجين، مع قلب ليس في أفضل حال .. كان يشخص بعينيه إلى السماء فاغر الفم متلاحق الأنفاس بينما يحاول الحراس حمل جسده الضخم خارج الحرم ..
كان المشهد مؤسفًا أليمًا .. هذا الذي تتصاعد الهتافات ضده ليس (شارون)، بل هو وزير خارجية أهم وأكبر دولة عربية .. الدولة التي ضحت بالكثير بسبب تحالفها مع الفلسطينيين .. دعك من البعد الإنساني لرؤية عجوز يوشك على الموت اختناقًا ..
مر المشهد بسلام، وتم نقل الوزير إلى مستشفى إسرائيلي حيث قيل إن الوضع مطمئن .. لكن هذا لم يكن أسوأ ما في الأمر .. ما أثار رعبي وضيقي هو أنني كنت أشاهد هذا الأحداث بلا أدنى انفعال على الإطلاق .. لم أشعر بذرة تعاطف معه ولم تدمع عيني بسبب الإهانة التي وجهت لمصر على شاشات الفضائيات بلا داع .. كان مشهدًا غريبًا وكفى ..
عندما فكرت في الموضوع بهدوء بعد ذلك، وحاولت فهم سبب هذا البرود العجيب الذي تابعت به الأحداث، فهمت أن السبب هو ببساطة عدم انتماء مفرط .. هذا وزير خارجيتهم يتلقى الإهانات بسبب سياساتهم الخاطئة .. فما دخلي أنا في هذا كله وما دخل مصر ؟
هذا هو ما صنعوه بنا .. أعتقد أنني كنت سأبكي لو كان المشهد يمثل هدفًا يحرز في مرمى مصر في مباراة دولية ما .. بينما أنا فعلاً لا اعرف لماذا جاء (أحمد ماهر) إلى منصبه، ولا أعرف لماذا ذهب، ولا أعرف فيم تميز (أبو الغيط) عنه . وبالطبع لن أعرف أبدًا ما دار في تلك الزيارة التي قام بها (ماهر) إلى فلسطين ولن أعرف ..
هل لي رأي في الموضوع ؟.. هل هناك من يبالي بما أعتقده ؟.. ما زالت هناك بنود كاملة سرية في معاهدة (كامب ديفيد) عجز أكبر الصحفيين عن معرفتها .. كل ما يرشح لنا يأتي من الخارج .. هكذا هم يتفقون دون أن يأخذوا رأيي .. يوقعون .. يعينون .. يبيعون .. كل هذا من دون أخذ رأيي، فإذا أبديت اعتراضًا قيل لي إن هناك قنوات شرعية مخصصة لذلك .. القنوات الشرعية هي برلمان طُعن في شرعيته مرارًا.. وأعضاء يوافقون على كل شيء ولو كان الانضمام إلى جزر الكاريبي أو بيع الهرم (صحيح أن الإخوان صاروا يشكلون جانبًا لا يستهان به منه، لكن يظل عددهم غير مؤثر في القرار النهائي بدليل تمديد قانون الطوارئ)، ورئيس برلمان متأهب لوأد أي استجواب جاد حقيقي طالبًا الانتقال إلى جدول الأعمال..
إذن فليتلقوا الإهانات .. لتهاجمهم الصحافة العالمية .. لتوجه لهم أبلة (كوندي) اللوم وتضربهم بالخيرزانة على أطراف أناملهم.. لا يهم .. ليس هذا شأني .. هم ليسوا قومي وليسوا رجالي..
نفس السيناريو حدث بشكل مخفف مع خسارتنا فرصة تنظيم المونديال .. كانت فضيحة مدوية، لكني قابلتها بذات البرود المعتاد .. قلت لنفسي: هذه حكومتهم وهم قد حاولوا استضافة المونديال فتلقوا صفعة لأن استعداداتهم غير كافية .. ما لي أنا وهذا ؟.. ولماذا يجب أن أنفعل ؟
وقد اصطك الحس الشعبي المصري المرهف تعبيرًا مناسبًا للموقف هو (بلدهم يا عم).. نحن مجرد ضيوف هنا نعيش حياتنا على الهامش قدر الإمكان ..
الحقيقة أن هذا الاستقطاب الذي جعل الشعب والحكومة دولتين مختلفتين موجود منذ أواخر السبعينات ، وله عدة عوامل منها غياب الديمقراطية .. لا يمكنك أن تشعر بالانتماء لمشروع لا دخل لك فيه ولم يؤخذ برأيك في إنشائه، لكنهم يطالبونك بدفع ثمن فشله ، العامل الثاني هو ذبول فكرة القومية ذاتها، ويعود جزء منها إلى زحف المد الديني الذي يرى بعض أفراده أن الإندونيسي (محمد طوار) أقرب لك من المصري (مينا اسكندر) الساكن في شبرا.. في لحظة ما من التاريخ كف عبد الناصر أن يكون قائد الثورة و(بابا جمال) وتحول إلى طاغية علماني، وقال داعية كبير إنه سجد لله شكرًا يوم هزيمتنا في 1967 .. أي أن اليهود – بعبارة أخرى – هزموا دولة الكفر !.. وتحول (كمال أتاتورك) من عقلية تقدمية خلقت تركيا الجديدة إلى السفاح الذي مزق دولة الخلافة،. وقد كنت في مؤتمر طبي ذات مرة ودعت المحاضرة الجالسين إلى الوقوف لأن السلام الجمهوري لجمهورية مصر العربية سيُعزف حالاً.. وقف غالبية الموجودين، لكن من ظلوا جالسين راحوا ينظرون لنا في تحد واشمئزاز غريبين .. لسان حالهم يقول: هل ما زلتم تؤمنون بهذه السخافات ؟.. هل سنعود لهذه الوثنية ؟
عندما يكف أفراد شعب عن تحية علمه أو الوقوف لدى عزف سلامه الوطني، فإن أجراس الخطر تدق .. إن العلم خرقة من القماش لكنها ترمز لكل شيء في مصر : الهرم .. النيل .. الشيخ رفعت .. الأزهر .. عبد الوهاب .. أم كلثوم .. ثورة 1919 .. نجيب محفوظ .. سيد قطب نفسه .. الخ .. وعندما ترفض تحية العلم فأنت في الواقع ترفض كل هذه الأشياء التي صنعت كلمة مصر ..
حتى فكرة كراهية إسرائيل ذاتها لم تعد بذات الوضوح الذي عرفناه في المدارس قديمًا .. ولولا المد الديني الذي يحمل تراثًا هائلاً من كراهية اليهود، ووجود المسجد الأقصى في الموضوع لذبلت الفكرة تمامًا .. دعك من الأخ السفاح شارون الذي نجح في أن يعيد القضية دامية متوهجة في الأذهان، وبالتالي قدم خدمة لا تُنسى للفلسطينيين من حيث لا يدري. كنت أحيانًا أجرب أن أدخل برامح المحادثة (شات) منتحلاً اسم فتاة إسرائيلية على سبيل جس النبض.. وكنت أطلب محادثة شاب مصري .. عندما أعلن له (حقيقة) إنني فتاة إسرائيلية، كان الشاب في 100% من الحالات يقول لي: وماذا في ذلك ؟.. العرب عفنون Arabs stink أصلاً.. وهو اعتراف وتنازل لا داعي له سوى كسب ثقة هذه الإسرائيلية التي إن لم تكن حسناء فعلى الأقل هي مستعدة لعمل أشياء كثيرة !
اجتماعات ومحادثات وجلسات مغلقة ومكالمات هاتفية تخبرنا بها الصحف .. لا تعرف أبدًا ما دار فيها .. المهم أن هناك من اجتمع ومن تكلم هاتفيًا .. والنتيجة هي أنك تمر بحالة أبوية فريدة .. أنت مجرد طفل يلهو في الصالة بينما أبوك يجلس في الصالون مع أصدقائه الكبار يقولون كلامًا لا تفهمه أنت ومن العيب أن تحاول أن تعرفه.. سوف تتحمل هذا لأنه أبوك .. لكن ماذا عن من ليس أباك ولا دور لك في وجوده هنا ؟
يحذر الجميع من بيع القطاع العام فيُباع .. يحذر الجميع من توقيع الكويز فتُوقع .. يحذر الجميع من ذبح القضاة فيذبحون .. ينصح الجميع بحضور جنازة بابا الفاتيكان فلا يحضرها أحد ذو أهمية .. ينصح الجميع باستقبال وزير الخارجية الفلسطيني المنتخب فلا يستقبله أحد .. ينصح الكثيرون – وأولهم محمد حسنين هيكل - بأهمية وجود خطوط دبلوماسية قوية مع إيران فلا يبالي أحد .. يحذر الكل من خطر تعويم الجنيه فيعومونه .. كل شيء يتحرك برغم إرادتك وبلا أخذ رأيك .. وكما يقول العظيم محمود المليجي في فيلم (اسكندرية ليه؟): وعايزني أكسبها ؟
نتيجة هذا تنمو اللامبالاة ويذبل التعاطف وتراقب وزير خارجيتك يُضرب في الحرم القدسي فلا تهتم .. هذه هي الصورة الأقل خطرًا , أما الصورة الأخطر فمثالها سقوط بغداد خلال ساعات ..لقد ذاب الجيش العراقي تمامًا لأن أفراده لم يستطيعوا الشعور بأنهم يدافعون عن بلادهم بل عن صدام .. صدام الذي ورطهم في حرب طاحنة مع إيران ثم غزا الكويت لأن (دماغه كده).. فلماذا يطالبهم بالموت في سبيله هو الذي لم يصغ لأحد سوى نفسه، ولم يسمح لأحد أن يفتح فمه إلا لإلقاء قصيدة مدح فيه ؟.. (صدام) الذي كان أطفال بلاده يموتون بسبب سياساته الحمقاء، لكنه كان يجد الوقت الكافي ليناقش المخرج الذي صنع فيلمًا عن قصة حياته في جلسات مطولة: أنت أظهرت معالم الألم على وجه الممثل لحظة إخراج الرصاصة .. هذا كذب .. أنا لم أبد أية علامة على الألم!
هكذا تسير الأمور .. لكن مصر هي مصر .. بالتأكيد لم نفقد انتماءنا لمصر الهرم والنيل وأحمد شوقي والشيخ رفعت والفول والطعمية ورائحة النعناع في الحقل وصوت أم كلثوم في الليل وعم (بسيوني) الفلاح العجوز الجالس يشرب الشاي على المصطبة ليلاً، وحتى جندي الأمن المركزي الذي يرفض أن يطيع أمر ضابطه ويضرب المتظاهرة الحامل .. هذه هي (بلدنا يا عم).. مصر الحقيقية الولود التي لا يعرفونها، والتي بدأت ملامحها تتقلص ألمًا معلنة قرب ولادة جديدة!