كان الفيلسوف الكلبي الشهير (ديوجين) يمضي تحت جنح الظلام حاملاً مصباحًا يفتش به عن رجل واحد شريف، ويقال إن بحثه كان سدى .. أعتقد أن القصة تتكرر في عالمنا العربي اليوم، لكن (ديوجين) المعاصر كان سيتعب كثيرًا جدًا في البحث عن رجل واحد يتحرى الدقة والعدل ..
سوف يبدو هذا المقال للبعض دفاعًا مستميتًا عن الحكومة في أسوأ وقت ممكن، لكنه ليس كذلك على الإطلاق، فليس الدفاع عن هذه الحكومة المتخبطة الفاسدة من الأمور المحببة للنفس .. إنه دفاع عن الدقة وعن تحري الصواب فيما يقوله المرء دون الخضوع لدكتاتورية الجماهير، ودون الشهوة الطاغية لأن تقول لها ما تريد سماعه .. أذكر مقولة بديعة للشيخ (القرضاوي) يقول فيها: إن نفاق رجل الدين للحاكم أمره مفضوح وبالتالي خطره محدود.. لكن الخطر كل الخطر هو أن ينافق رجل الدين الجماهير بأن يقول لها ما تحب سماعه .. الحقيقة أن المواطن المصري قد تغير كثيرًا جدًا، وما أريد قوله هو أن هذه الحكومة هي الإفراز الطبيعي لهذه الحالة.. إن الشعوب تستحق حكوماتها وكيفما تكونوا يول عليكم .
الموضوع يتعلق بانفلونزا الطيور .. بالتحديد ذلك الحوار الذي أجراه مذيع قناة الجزيرة (أحمد منصور) مع مسئول مهم عن المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في مصر .. منذ اللحظة الأولى للحوار بدا واضحًا أن أحمد منصور يغلي غضبًا ويريد إخراج حممه على الحكومة المصرية .. لقد عاد أحمد منصور القديم العدواني الذي يقاطع ضيفه في كل جملة بلا استثناء ولا يكف عن ترقيص حاجبيه.. منذ فترة طويلة كف أحمد منصور عن أن يكون مشاكسًا مغرورًا ضيق الأفق، لكنه في هذه الحلقة استعاد ذلك التراث القديم..
الضيف هادئ ثابت راسخ الحجة، وهو يؤكد في إصرار أن ما قامت به الحكومة المصرية هو ببساطة ما أوصت به منظمة الصحة العالمية حرفيًا، و أن الوباء قد بدأت السيطرة عليه فعلاً بسبب هذه السياسة الحازمة .. لكن المذيع يزداد عصبية وخيبة أمل .. لقد جاء بالضيف ليقول إن الحكومة أخطأت وإن هناك مؤامرة، وإن الحيتان الكبيرة هي التي بدأت هذه الإشاعة للقضاء على ثروة مصر من الدواجن والبدء من جديد بشروطها ومصلحتها الخاصة ..
يصر أحمد منصور على كشف فساد الحكومة، فيعرض فيلمًا شنيعًا يظهر رجلاً يجمع الكتاكيت بمكنسة والسيجارة بين شفتيه ثم يشعل فيها النار وهي حية .. ويعرض فيلمًا آخر نرى فيه فلاحين يفرغون أجولة مليئة بالدجاج الميت في مصرف مائي (لم يسأل المذيع نفسه عن سبب موت كل هذه الدواجن إذا كانت انفلونزا الطيور إشاعة) .. علام تدل هذه الأفلام ؟.. تدل على أن المواطن جاهل همجي لا يبالي بتلويث مجرى النيل .. أي أنه فقد الحس الحضاري الذي تمتع به جده الفرعوني .. وتدل على أنه وحش قاس لا يبالي بحرق الحيوانات حية، برغم تعليمات الدين الذي لا يكف عن الكلام عنه لحظة .. فما دخل الحكومة في هذا ؟.. الضيف يقول إن هذا الفيلم يخبرنا بحجم المشكلة.. وإنها لكبيرة وضخمة، لكن الحكومة غير مسئولة عن هذه التصرفات الارتجالية من البعض ..
يزداد المذيع عصبية .. خاصة عندما يكرر الضيف إنه مسئول عن الطب الوقائي ولا يدافع عن أية حكومة .. فقط هو يؤكد أن الحكومة المصرية تصرفت بحكمة لمرة واحدة في تاريخها .. "لا تدافع يا أحمد عن الجهل بحجة الدفاع عن الفقراء .. للأسف كل من يعلم ومن لا يعلم يتكلم .. لو استطاع الفيروس أن يطور نفسه لينتقل من إنسان لإنسان لكانت كارثة على الفقراء والأغنياء معًا.."
يسأله أحمد منصور: لماذا تعدم الحكومة الدجاج دون فحصه ؟.. فيرد الضيف : لأنه لا يمكن فحص دجاجة دجاجة .. بروتوكول الصحة العالمية يقضي بإعدام الدجاج في دائرة محددة القطر تحيط بأي إصابة .. يسأله أحمد منصور: لماذا تنفرد مصر بهذه النسب العالية دون العالم ؟.. يقول الضيف إن مدينة هونج كونج سنة 1997 أعدمت مليون دجاجة .. فيصيح المذيع: هذا في عام 1997 .. نحن في عام 2006 !! ولسان حاله يقول: لقد جئت بك هنا كي تشتم الحكومة فماذا دهاك ؟.. كان يبحث عن وجبة دسمة من الهجوم على الحكومة ونظرية المؤامرة، فخيب الضيف أمله بهدوئه ومنطقه العلمي المتزن ..
الخلاصة أن المذيع أنهى الحلقة قبل موعدها بعشر دقائق، وتشاجر مع الضيف فعلاً عندما قال له هذا الأخير: كل ما تريدون هو أن تهاجموا الحكومة، فرد أحمد منصور: لسنا كذلك ولا أسمح لك .. وانتهت الحلقة وهو يضغط على عضلات فكيه من فرط انفعال..
الحقيقة أن انفلونزا الطيور نموذج ممتاز للطريقة التي يتعامل بها المصريون مع الحقائق .. قبل أن يظهر الوباء في مصر بستة أشهر، وبينما منظمة الصحة العالمية تؤكد بعناد أن مصر خالية من انفلونزا الطيور، خرجت جريدة مستقلة واسعة الانتشار بصفحة كاملة تؤكد أن انفلونزا الطيور تجتاح مصر وأن الحكومة تخفي الحقائق عن الشعب كالعادة .. ثم ظهر الوباء في مصر فعلاً فإذا بهذه الجريدة تخصص كل أعدادها للكلام عن الخدعة الكبرى التي قامت بها الحكومة لمصلحة الكبار ..!
إذن متى كذبتم ؟.. هل كذبتم منذ ستة أشهر أم الآن ؟.. لكن الجميع ينسى .. حتى من كتب هذا الكلام نسى أنه كتبه..
وفي القاهرة ترى مظاهرات أصحاب المزارع تشق الطريق متجهة لمبنى التلفزيون، وهي تحمل لافتات عليها العبارة المصرية الخالدة (لمصلحة من ؟).. و(إشاعة انفلونزا الطيور .. لماذا يا حكومة ؟)..
وفي سوق مزدحم بمدينتي طنطا يقف رجل حاملاً مكبر صوت يصيح: "الشيخ فلان الفلاني عضو مجلس الشعب يقول لكم إن موضوع انفلونزا الطيور إشاعة أطلقتها الحكومة من أجل بعض المستوردين وتجار اللحوم .. ربوا الدجاج كما يحلو لكم .. وكلوه .. فقط لا تنسوا التسمية قبل أن تأكلوا ".. مع الإشاعة الأخرى: "سبب انفلونزا الطيور هي الخنازير التي يربيها النصارى ..!" وتشعر بأن القائل يوشك أن يقول:"تخلصوا من النصارى لتنجوا من الوباء !".. طبعًا بما أن الدقة هي الدقة فأنا أعرف أن فيروس انفلونزا الطيور نشأ نتيجة تربية البط والخنازير في مكان واحد لدى الفلاحين الصينيين، لكني أعرف كذلك أن الخنازير ليست هي مصدره في مصر وإنما هي الطيور المهاجرة .. وأعرف كذلك أن الشيخ فلانًا عضو مجلس الشعب لا يحق له أن يبدي رأيه في قضية طبية ..
ثم يتفاقم الوباء، فينسى الناس على الفور ما قيل، ويشكون من أن الحكومة لم تتخذ الإجراءات الكافية لمنع دخول هذه الكارثة .. تبدأ الحكومة في إعدام الدجاج في حملة صارمة غير مسبوقة، فيشكو الناس من أنها تتخذ من الإجراءات ما هو عنيف ولا داعي له على الإطلاق .. توفر الحكومة الدجاج المجمد فيتساءل الناس عن المصدر الذي جاءت منه بالدجاج بهذه السرعة ..
المؤامرة .. دائمًا المؤامرة .. وهو تفكير مبرر من شعب لم يسمع الحقيقة مرة واحدة في حياته، لكن هناك شيئًا اسمه المنطق .. هناك الحقيقة المجردة التي لا يجب أن تتأثر بكونك من أعضاء الحزب الحاكم أو المعارضة ..
القصة التي تؤثر في كثيراً كلما تذكرتها هي قصة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم مات ابنه (ابراهيم) وحدث خسوف للشمس .. قال المسلمون: لقد خسفت الشمس حزناً على (إبراهيم).. عندها كان غضبه صلى الله عليه وسلم شديداً مخيفاً وقال لهم: الشمس والقمر آيتان من آيات الله ولا تخسفان لموت أحد ..
هذا درس في الموضوعية والدقة .. ما حدث حدث وما لم يحدث لم يحدث .. فقط .. كان بوسعه - صلى الله عليه وسلم - أن يؤكد القصة أو يصمت وكان المسلمون سيصدقونه على الفور، لكنه لم يطق هذا الخلط المستفز للحقائق والأوهام في عقول العامة ..
أحياناً تأخذنا الحماسة الشوفينية فنقول أشياء غير دقيقة على طول الخط.. مثلاً أذكر أنني قرأت ترجمة لقصة (رحلة إلى باطن الأرض) صدرت في العراق في الثمانينات .. حين وجد بطل القصة الوثائق قالت الترجمة إنه وجدها مكتوبة باللغة العربية، وإنه حين سئل (جول فيرن) مؤلف القصة: لماذا اخترت أن تكون الوثيقة بالعربية ؟ . رد: لأنها لغة المستقبل..
حسن .. بالطبع لم يرد في القصة بتاتاً أن الوثيقة كتبت بالعربية .. ما قيل نصًا هو أنها كتبت بالحروف الرونية المستعملة في أيسلندا قديماً.. وهو منطقي لأن القصة تدور هناك .. وبالطبع لم يقل (جول فيرن) هذه العبارة قط .. هذا نموذج للشوفينية المضرة التي تلوي عنق الحقيقة وتجانب الموضوعية، لكنها تروق للناس وتدغدغ غرورهم ..
إن قصة انفلونزا الطيور وأحمد منصور وعضو مجلس الشعب الذي يعرف الحقيقة كلها هي قصة تلخص تفكيرنا الحالي كله .. ومن الغريب أن المعارضة تحتاج إلى شجاعة لا بأس بها، لكن معارضة المعارضة تحتاج إلى قدر أكبر منها !.. التشكيك عمل جريء، لكن التشكيك في التشكيك صار عملاً أكثر جرأة !