لست أذكر المناسبة بالضبط، لأنني كنت مراهقًا في المدرسة الثانوية أجلس أمام جهاز التلفزيون، أتابع ما أذكر أنه حفل تكريم أو عيد للعلم .. شيء من هذا القبيل .. على المنصة يجلس الرئيس الراحل (أنور السادات)، واللحظة هي تكريم أحد أستاذته السابقين في المدرسة.. كان الرئيس الراحل يحب هذه المواقف لما فيها من مسحة درامية .. (هل تذكر الحطاب الفقير الذي آويته في دارك وأطعمته في تلك الليلة ؟.. لقد كان هو الخليفة متنكرًا ! .. وقد خلع عليك قصرًا وزكيبة من الذهب).. وقد سبق هذا تكريم مماثل لمن يدعى (سائق دمرو) الذي ساعد السادات في ظروف مماثلة..
المهم أن الأستاذ المسن الذي تصلبت شرايين مخه، والذي عاش عصور النفاق منذ أيام مولانا ولي النعم، اعتلى المنبر فقال بالحرف الواحد: "الله يقول: إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب .. أما نحن فنقول: إن في خلق السادات والأرض .. كذا .."
أقسم بالله أن هذا قيل حرفيًا، وسوف أُسأل عنه يوم القيامة .. لقد أصابني الهلع من هذه الدرجة العبقرية المفزعة التي يمكن أن يبلغها النفاق .. والأغرب هو أن أحدًا لم يعترض، والرئيس المؤمن نفسه لم يهب لتصحيح كلمات الرجل ..
كانت نهاية عصر السادات كما أذكرها مهرجانًا دائمًا من المزايدة على فن النفاق، وإنني لأذكر جلسة مجلس الشعب الصاخبة لتنصيب السادات سادس الخلفاء الراشدين.. بما أنني طنطاوي فقد شعرت بجو المولد الأحمدي العام حيث الكل يصرخ .. الكل مبتل بالعرق .. الكل يزايد .. ثم قتل السادات في ذات العام تقريبًا فلم يفده أحد بالروح أو الدم، وبادر كاتب صحفي كبير إلى انتقاد طريقة حكمه بعد دفنه بيومين..
تذكرت هذا كله عندما قرأت مذهولاً قصة الطالبة التي عبرت عن نفسها في موضوع التعبير فقامت الدنيا ولم تقعد .. كنت قد كتبت من قبل عن مفهوم الإذاعة المدرسية والمدرس الذي يرغب في أن يرضى عنه ناظر المدرسة، وناظر المدرسة الذي يشتهي أن يرضى عنه وكيل الوزارة، ووكيل الوزارة الذي يتمنى أن يرضى عنه الوزير .. كتبت عن التصور الحكومي للتلميذ المثالي الذي يرقص طربًا لاتفاقية الكويز أو توشكى، وقد امتلأ رأسه بكلمات من عينة (النبراس) و(العلياء) و(السؤدد) يرصها في أي موضوع تعبير .. التلميذ الذي يؤمن أن الحكومة دائمًا على حق، وأن أفضل رئيس جمهورية هو الرئيس الحالي في اللحظة الحالية..
لم تكن (آلاء) كذلك .. وقد كتبت ما خطر لها في ورقة التعبير لأنها افترضت أنه ما دام اسم المادة تعبيرًا، فعليها أن تعبر عن نفسها .. قال البعض إنها كتبت تشتم (بوش) وقال البعض إنها طالبت الرئيس بأن يتقي الله ..المهم أنها اصطدمت بعقلية (النبراس) و(العين ما تعلاش على الحاجب) هذه فكانت النتيجة كما يعرفها الجميع .. وكما يقول الأستاذ محمد حماد في جريدة (العربي ) الناصري: " والذى رأى وقرأ وسمع دفاع المسئولين فى وزارة التعليم والتربية سابقا عن الإجراء الذى اتخذوه بحق الطالبة يتصور أنها خانت الوطن وخرجت عن الملة، إذ قالت للرئيس اتق الله واحكم بالإسلام، والأغرب أنهم لحسوا كلامهم صبيحة أعلن الرئيس عفوه الكريم عن ابنته الطالبة، وتغير الحال فاستقبلها الوزير بنفسه وهنأها على نجاحها الذى كانوا يريدون لها أن تخسره وتخسر معه عاما من عمرها! .. انقلب حال الوزارة وانقلب حال الصحف وخرست ألسنة السوء التى طالبت بمعاقبة الطالبة التى خرجت عن الأخلاق وأساءت الأدب، وتبدل الحال وأصبح ما قالته يدخل فى باب حرية الرأى التى يحترمها الرئيس ويحرضها وزميلاتها وزملاءها على ممارستها!"
هناك إشاعة قوية يتناقلها الناس حول أن أمن الدولة اقتنع بأن ما تقوله الفتاة ليس كلامها، بل هو كلام جهة أكبر وأخطر !.. هكذا تم اعتقال أبيها للتحقيق معه باعتباره بداية الخيط التي ستقود إلى (أيمن الظواهري) نفسه !.. سمعت هذه الإشاعة فلم أصدقها .. منطق النفاق يقول إنه لن يجرؤ أحد على التحرش بهذه الطالبة ثانية .. لقد اهتم الرئيس بها شخصيًا وصار الاقتراب منها محفوفًا بالخطر، وأعتقد أن هؤلاء المسئولين الملكيين أكثر من الملك سوف يدفعون ثمن نفاقهم غاليًا .. نفس ما حدث لمذيع شهير حاول أن يتملق الرئيس بطريقة ضايقته، وكانت النتيجة أن تم استبعاده تمامًا من أية حوارات أخرى مع الرئيس.. لقد انقلب السحر على الساحر..
إن ثقافة النفاق عتيقة جدًا في بلادنا .. ومهما دارت الأيام فإن مفهوم الشاعر الذي يدخل على الخليفة فيمدحه، ويخرج حاملاً زكيبة مال، هو مفهوم متأصل فينا ويصعب الخلاص منه..
لا أزعم أنني درست الأدب العالمي، لكن أزعم أن أي دارس للأدب سيتعب كثيرًا حتى يجد بيتًا من الشعر في أية لغة يماثل ما قاله ابن هاني الأندلسي في مدح الخليفة الفاطمي المعز لدين الله :
ماشئت لا ماشاءت الاقدار....فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي محمد .....وكأنما أنصارك الانصار!!
بصرف النظر عما في هذا الكلام – البيت الأول - من شرك صريح، فإن أية أمة يُقال فيها كلام كهذا هي أمة مقضي عليها بالفناء، فلا غرابة أن يقال إن هذا الشعر كان نذيرًا بفناء دولة العرب في الأندلس.
المزايدة تتكرر في قصص التراث بلا انقطاع .. ها هو ذا (أبو تمام) ينشد قصيدته السينية أمام الأمير (أحمد بن المعتصم) .. فيقول الشاعر في نفاق صادق حار واصفًا الأمير:
إقدام عمرو في سماحة حاتم .....في حلم أحنف في ذكاء إياس
هنا يتدخل رجل بلغت به (سلطنة) النفاق درجة أعلى .. هذا الرجل هو أبو يوسف يعقوب الكندي قائلاً:
ـ"الأمير فوق من ذكرت !"
يعني كل هذا النفاق غير كاف .. الأمير أعظم من هذا .. لابد من المزايدة فقد بدأ (مولد) النفاق .. وعلى الفور يستغل (أبو تمام) موهبته ليرتجل شعرًا لم يكن مكتوبًا:
لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلا شرودا في الندى والباس
فاللّه قد ضرب الأقل لنوره ...... مثلا من المشكاة والنبراس
هذه القصة لا ترد في المراجع دليلاً على عبقرية النفاق أو قلة الأدب (فهناك تشبيه ضمني للأمير بالله تعالى) ، بل على براعة الشاعر وحسن تصرفه .. ولسبب ما أوشك أن أرى ذلك المسئول التربوي الذي ألغى امتحان آلاء يصرخ فيها : الأمير فوق من ذكرت !...
الأمثلة كثيرة جدًا ولا شك في أنني نسيت ذكر أهمها .. لكني أتذكر كذلك مقولة الأستاذ (أحمد بهجت) الرائعة : "للنفاق في بلادنا هيبة".. كان يحكي عن زيارته لأحد أصدقائه - ممن لم يعرف عنهم أي تدين - الذي صار شيخ طريقة .. قابله جالسًا في سرادق محاطًا بالمريدين، فتقدم نحوه ليصافحه وهو يوشك على الانفجار ضحكًا .. ثم أخذته هيبة النفاق فانحنى يلثم يده!
أحيانًا يبلغ النفاق درجات من التعقيد يصعب أن تتخيلها .. مثل ذلك المطرب الذي ينشد في أحد أعياد أكتوبر: "لا حيغنيني ولا يرقيني .. ولا فيه مصلحة بينه وبيني .. باقولها وأجري على الله .. علشان كده احنا اخترناه !" .. يريد أن يقنعني أن مدحه لرئيس الجمهورية هو كلمة حق أمام سلطان جائر ! .. وأجره بعد ذلك على الله..
ذات مرة – قبل أن يدخل معترك السياسة بهذا الوضوح – زار السيد (جمال مبارك) مدرسة خاصة للفتيات في القاهرة، فنشرت التلميذات في إحدى المجلات رسالة مناشدة إلى الرئيس تقول: "نحن في بلد ديمقراطي ومن حقنا التعبير عما يجول بخاطرنا، وأنت علمتنا الحرية وعدم الخوف .. لذا نطالب الرئيس مبارك بأن يكلف السيد (جمال) بوظيفة سياسية مهمة !".. هذا نوع من النفاق عجيب، على غرار: "اتركني أقول شهادتي التي سأسأل عنها أمام الله .. أنت أعظم وأروع من رأيت !".. تخيل لو أنهن نشرن رسالة يطالبن فيها الرئيس بعدم إسناد أي منصب رسمي لابنه!
المنافقون .. المنتفعون .. مشكلة هذا البلد وكل بلد عربي ..
هناك دومًا من يريدون أن يبقى الحال على ما هو عليه، وهم قادرون في أية لحظة على تنظيم المظاهرات المضادة، ونشر العرائض المكتوبة بالدم والمبايعة، وأن يملأوا البلد باللافتات المؤيدة لأي شخص وأي قرار في أية لحظة .. هؤلاء هم الذين يفرغون أي إصلاح حقيقي من محتواه ..
سواء كانت نية الرئيس (علي عبد الله صالح) صادقة في التخلي عن الحكم أم خلاف ذلك، فقد تكفل هؤلاء في اليمن بإحباطها وعادت الأمور كما كانت، وهم مستعدون في أي بلد عربي كي يهتفوا (الأمير فوق من ذكرت) في أية لحظة .. ولسوف يظهر لهم من يزيد بيتين من الشعر لإرضاء الحاكم..
الأمير فوق من ذكرت .. فلا مكان لطالبة ساذجة تعتقد أن موضوع التعبير يعطيها الحق في أن تعبر عن أفكارها .. والويل كل الويل لمن يبتعد عن ثقافة (السؤدد) و(النبراس) هذه .