كنت أموت من الظمأ في ذلك اليوم الحار، ولما كنت بطبعي غير مولع بالمياه الغازية، فقد اتجهت إلى محل لعصير القصب .. حبي الأول الذي أشعر بدهشة لكونه لم يغز العالم بعد، هناك صب لي البائع كوبًا كبيرًا حملته متلمظًا إلى شفتي، لأجد أنه عديم الرائحة والطعم.. فقط له لون كريه يذكرك بحساء القلقاس...
أصابتني الحيرة .. كم يبلغ هامش الربح في كوب من عصير القصب ؟.. بالتأكيد هو لا يقل عن 80% .. وبالتالي حصل البائع على أربعين من الخمسين قرشًا التي هي ثمن الكوب، فماذا يريد ؟.. ولماذا يجب أن يغش العصير بخلطه بالماء البارد ؟.. لماذا لا يقدم لي سلعة جيدة ويكتفي بأربعين قرشًا بدلاً من ثمانية وأربعين ؟
قلت للرجل غاضبًا إنني لن أتعامل معه مرة أخرى، فهز رأسه في مزيج من الاعتذار الساخر واللامبالاة .. ماذا يخسره لو فقد زبونًا وماذا يكسبه إذا احتفظ به ؟
المهم بالنسبة له أنه أخذ مني هذه المرة وانتهى الأمر، ومحدش حينام جعان .. غدًا يأتي سواي .. هكذا تحول الإيمان بالرزق إلى مبرر للخداع بلا توقف...
الحقيقة أن فلسفة هذا الموقف تنطبق على كل شيء في حياتنا بدءًا بكوب عصير قصب وانتهاء بسيارة فاخرة أو فيلا في الساحل الشمالي
***
برغم إنني طبيب، فأنا لا أضع علامة الهلال على زجاج سيارتي لأسباب واضحة .. إن هذا الهلال هو علامة استحلال دمي ومالي لدى أي ميكانيكي أو تاجر أتعامل معه .. ولكم سألني هذا الصنايعي أو ذاك عن مهنتي فأقول (مدرس) أو (مندوب مبيعات) بلهجة عابرة...
هذا الهلال يوشك أن يكون إعلانًا يقول لهؤلاء: (أنا أحمق .. فاخدعوني).. عندما يتعاملون مع طبيب فهم يتكلفون ذلك الاحترام الممزوج بالسخرية، ويقولون: يا دوك ألف مرة في الساعة .. وهم لا يكفون عن سرقتك .. المهمة التي يدفع سائق التاكسي ثلاثة جنيهات ثمنًا لها يطالبونك أنت بثلاثين من أجلها .. شعارهم هو : هذا رجل ثري.. رزق حلال أرسله الله لنا.. لقد خُلق ليُخدع.. فإن لم نخدعه فمن نخدع إذن؟
أنا لا أملك عيادة، وبالتالي لا أعتقد أنني أخدع المرضى بأي شكل، ومعظم من أعرفهم من أطباء لا يفعلون ذلك، لكن كل واحد من الحرفيين أو التجار لديه ذخيرة كاملة من القصص عن أطباء نصابين ، وعن (الحاجة) التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة وبرغم هذا أصر الطبيب على أن يدفعوا نصف مليون من الجنيهات مقدمًا قبل أن يفحصها.. أعرف أن هذه القصص تحدث فنحن لسنا في يوتوبيا ، لكن هذا ليس مبررًا للتعميم، وليس مبررًا للانتقام مني أنا بالذات أو من أول طبيب يطلب عونهم
في تصرف هؤلاء غباء لا شك فيه، لأنك لن تطرق بابهم ثانية.. لكنهم ليسوا من أساتذة علم التسويق، ولا يعنيهم في شيء أن تعود أو تذهب للجحيم.. لقد حصلوا على قطعة منك وفروا بها، وفيما عدا هذا هم مؤمنون بالرزق وبأن هناك مغفلاً آخر سوف يأتي غدًا..
***
والغريب أنهم غير مخطئين تمامًا ..
رأيت أكثر من صديق ابتاع أشياء باهظة الثمن لا يحتاج لها عن طريق التسوق بالتلفزيون.. جهاز تخسيس وصابونة تذيب الشحوم وسبراي يزيل أي خدوش من سيارتك.. كنا نعيش قبل صابون إذابة الشحوم، ومن المؤكد أننا سنعيش بعده، لكن الإعلان يقنع الناس إن حياتهم مستحيلة وإنهم يعيشون كالكلاب من دون هذا الصابون..
جرب صاحبي عبوة كاملة باهظة الثمن من السبراي الذي يعلنون عنه كي يزيل خدشًا عن سيارته، بلا أية نتيجة .. اتصل بالشركة فقالوا له إنه بحاجة لعبوة ثانية لأن سيارته (ميتالك).. ابتاع العبوة الثانية ولم يحدث شيء .. هنا فقط أدرك أنهم نصابون، لكنهم بالتأكيد جمعوا قدرًا لا بأس به من المال، ولن يضيرهم في شيء أن يعرف كل الناس أنهم نصابون .. إنهم الآن يبحثون عن طريقة النصب الجديدة ..
تسأل بائع الفاكهة عن الأسعار فيذكر لك في ثبات أرقامًا تعرف أنها ضعف سعر السوق .. هذا الرجل يرى من الحلال له أن يكسب الضعف بلا حق وأن أخسر أنا الضعف، لمجرد أنه مولع بنفسه ولمجرد أنه هو .. بينما يمكنه أن يشق بطني لو حاولت العكس .. الفارق بين الشطارة في التجارة والسرقة واضح أو يجب أن يكون واضحًا .. تحاول أن تفاصل فيرفض في غلظة وقلة ذوق وتعال .. كأنه يقول لك: ابتعد عني ولا تصدع رأسي .. فلتذهب إلى حيث ألقت ..
تلاحظ أنه لا يبيع تقريبًا منذ الصباح، وإنه من الخير له لو تنازل قليلاً عن جشعه كي يعود ببعض المال لأطفاله، لكنه يفضل أن يموت جوعا على أن يكون سمحًا ..
لا ينكر أحد أن هناك الكثير من التضخم والخلل الاقتصادي في مصر، لكن الجشع يلعب دورًا لا بأس به كذلك .. لا أعني أن الغلاء ظاهرة نفسية، لكن لا تنكر أن بعض السلع غالية لأن الكل يقول إنها غالية .. بعض الأسعار مرتفعة لأن الباعة يقولون إنها مرتفعة ..
هناك كاريكاتور رائع للفنان مصطفى حسين وأحمد رجب يظهر بائع ليمون يعرض بضاعته في علبة فيديو قديمة .... بائع من نمط الأوغاد الذين يجيد الفنان رسمهم ببراعة يرفع حاجب (الاشمئناط) الأيسر ويكلم الزبون قائلاً: "أيوه اللمونة بجنيه .. ما تشوف سعر الفيديو كام ؟"
وقد أقبل الغلاء مضطرًا، لكني – كما في حالة كوب عصير القصب تلك – لا أقبل الغش .. ما دمت قد دفعت ثمن الخدمة فلابد أن أحصل على مقابل لها .. دفعت ثمن اللحم كاملاً فما معنى أن أنال بضعة كيلوجرامات من الدهن والشغت ؟.. المشكلة أن هذه صارت القاعدة في مصر .. أنت لا تنال مقابل مالك أبدًا .. أنبوب معجون الأسنان أو الحلاقة ينتهي بعد ضغطتين لأنه يحوي فقاعة هواء عملاقة، وكأن صانعيه يحسبون أنهم يعبئون اسطوانات أكسجين .. كل طبيب يعرف معجزات الدواء المغشوش وكيف يشرب المريض زجاجة دواء سعال كاملة فلا يهدأ السعال لحظة، وكيف يبتلع علبة أقراص كاملة فلا تنخفض حرارته درجة، بينما نفس الدواء المستورد يصنع الأعاجيب .. كل طبيب يعرف (المقويات) ومضادات التأكسد التي تلتهم ميزانية المريض لأن ذرات جسده تزيد إلكترونًا .. حتى أثناء كتابة هذا المقال اكتشفت أن حبارة الطابعة المعبأة في مصر قد فرغت .. أنا متأكد من أنني لم أطبع سوى خمسين صفحة وإن كنت عاجزًا عن إثبات ذلك .. إذن الصفحة الواحدة كلفتني جنيهين ... سأنهض لأغسل يدي بصابونة ينكمش حجمها في كل مرة أبتاعها فيها .. أشرب كوب شاي أضافوا له البيكربونات ليبدو غامقًا، ثم أبتلع قرصين من علاج الضغط الذي لا نفع منه، والذي يشبهه الأطباء بقطع الجبس..
فإذا صار الغش التجاري والمغالاة دينًا فأنا أطالب هؤلاء بأن يكونوا من أتباعه المخلصين .. لكنهم (إذا اكتالوا على الناس يستوفون).. دع واحدًا من هؤلاء يتقاضى ثمن دوائه التالف أو لحمته المشغتة أو عصيره المخلوط بالماء بنقود مزورة ولسوف يملأ الدنيا صراخًا عن الشرف وكيف انعدم الضمير، و(إنما الأمم الأخلاق ما بقيت).. يقولها وهو يجرك من قفاك إلى أقرب قسم ..
ما الذي يفعله المزور الذي يطبع النقود على طابعة ليزر ملونة، ويختلف أخلاقيًا عما يفعله هؤلاء ؟.. كلاهما يريد كل شيء مقابل لا شيء .. الحقيقة أنني كلما فكرت في الموضوع ازددت دهشة .. لماذا لا نرحم أنفسنا ؟... وإذا كنا لا ننوي أن نتصرف بتحضر فلماذا لا تتدخل الدولة بحزم ؟ .. لماذا لا تمنع هذا الشلال المتدفق من الغش التجاري والاستغلال الذي لا يتوقف؟
سؤال آخر: هل تعرف وحياة والدك الطريق لشراء طابعة ليزر ألوان مستعملة بسعر معقول ؟!!!!!