تم نشر الأجزاء الثلاثة الأولى من قبل في المقالات المختارة من كتاب "دماغي كده"ـ
و اليوم وجدت بعض المقالات الأخرى التي تتحدث عن هؤلاء النصابين
------------------------------------------------
هم ليسوا جميعًا نصابين بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنهم كما قلت خليط من المنتفعين وحسني النية والمرضى النفسيين، يجمعهم أنهم يقودون عقل هذه الأمة إلى الهاوية، وبلا رحمة .. إنهم لا يتعبون لحظة ولا يكفون عن الابتداع .. تنتهي هوجة الأعشاب فتبدأ هوجة الأوزون .. تنتهي هوجة الأوزون فتبدأ موجة الحمام وبول الإبل .. إن المولد في ذروته وقصعة الفتة جاهزة لمن يهبش منها أكبر قدر ممكن..
على كل حال لن نتكلم عن الأعشاب اليوم لأنها قتلت بحثًا، وقد جاءت قضية المعالج التلفزيوني إياه لتضع الكثير من النقاط على الحروف، لكن لا تتوقع أن تنتهي المسألة بهذه البساطة .. لقد خسر النصابون المعركة لكنهم لم يخسروا الحرب .. فقدوا جنديًا لكن جيوشهم متماسكة، ولسوف ينتظرون حتى ينسى الناس ثم يخرجون علينا باختراع آخر .. كل من راهن على قصر ذاكرة هذه الأمة كسب الرهان.. إذن لن نتكلم عن الطب البديل .. سوف نتكلم اليوم عن الطب الشبيه بالطب!
وكما قلت سابقًا فإن أقوى حيل النصب هي التي تحيط نفسها بسياج ديني كثيف، لكن هناك تقنية أخرى شهيرة هي أن تحيط النصب بسياج علمي !.. يعرف العالم الغربي هذا النمط من الأطباء الذين يوحون بالرهبة والوقار وهم لا يقولون إلا كلامًا فارغًا .. يطلقون على هذا اسم Eloquence based medicine أي (الطب المعتمد على طلاقة لسان الطبيب)... هذا الطبيب يكون متأنقًا تحيط برأسه هالة من الشعر الأبيض ، وبرضه يطلقون على هذا التأثير اسم (تأثير الهالة halo effect) لأنه من الصعب أن تشك في كلام رجل أشيب مهيب لهذا الحد .. من الناحية النفسية تلعب هذه الابتكارات على مبدأ (التفكير التواق Wishful thinking) .. أي تكوين قناعات طبقًا لما يشتهيه المرء وليس على أدلة علمية واضحة، ولهذا التفكير المختل نوعان:
1- تمنيك للشيء يكفي ليكون حقيقيًا (من الجميل أن يختفي داء السكري بشرب بعض الأعشاب)..
2- عدم إثبات زيف الشيء يكفي لجعله حقيقيًا (الأعشاب لم تثبت فشلها بشكل واضح إذن هي مفيدة) ..
هناك قضية أخرى في التفكير العلمي الزائف اسمها Post hoc fallacy وهو مصطلح لاتيني يمعنى (حدث بعده إذن هو نتيجة له). أو الربط الزائف بين الأسباب والنتائج .. أنت مصاب بالصداع ..تشرب كوبًا من الينسون .. يختفي الصداع .. إذن يمكننا القول إن الينسون من أدوية الصداع المهمة .. على هذا الربط الخاطىء يقف معظم الطب البديل.. وعليه يرتكز التفاؤل والتشاؤم والنحس و.. و... (كلما رأيت هذه المرأة القبيحة كغراب البين حدثت لي مصيبة في العمل).. هذه الأمور بديهية في طريقة التفكير العلمي، ومن الواجب أن تأخذ مكانها في مقرراتنا الدراسية لكن الطريقة العلمية ذاتها مهتزة لدى الكثيرين .. بل لدى من يفترض منهم أن يعلموا الطريقة العلمية ذاتها..
لا أفشي سرًا إذا قلت إن كثيرين من أعضاء التدريس – باستثناء من هم مختصون بهذا - لا يفهمون مبادئ الإحصاء ولا كيفية تصميم بحث علمي .. عندما دخل عقار (دي دي بي DDB) مصر – وهو ما يطلقون عليه (الحبة الصفراء) - قرأت بحثًا طريفًا يحمل توقيع وزارة الصحة قامت فيه بالتالي: أعطت العقار لمجموعة مرضى بالتهاب الكبد (سي) ثم لاحظت وظائف الكبد ونسبة الفيروس في الدم لعدة أشهر ووجدت تحسنًا ملحوظًا !.. بس كده .. هنا تشد شعر رأسك .. لو صح أن وزارة الصحة بجلالة قدرها هي المسئولة عن هذا البحث .. ألم يسمع هؤلاء عن مجموعة ضابطة ؟.. مجموعة لا تتلقى علاجًا أو تتلقى علاجًا مختلفًا أو تتلقى علاجًا وهميًا اسمه (البلاسيبو).. لابد من مجموعة ضابطة لتقارن النتائج أما البحث بهذه الصورة فلا يجرؤ تلميذ في الصف الثالث الإعدادي على تقديمه لمعلمه ..
هناك ذلك العالم المصري الذي أعلن أنه اكتشف علاج الروماتويد .. ثم سافر إلى الكونغو ثلاثة أشهر وعاد ليعلن أنه اكتشف علاج الإيدز كذلك .. هكذا ببساطة قضى على داءين أرهقا البشرية منذ سنين، وفعل هذا في ثلاثة أشهر .. يبدو هذا عجيبًا في زمن الشركات العملاقة والهندسة الجزيئية حيث لم يعد شيء متروكًا للصدفة، لكن الفيصل بيننا وبينه هو الاكتشاف ذاته.. لكنه لا يريد أن يعلن أي شيء عن نتائجه .. لماذا ؟.. مافيا الدواء خطيرة جدًا وسوف تسرق اكتشافي .. أوراقي .. اكتشافي .. لدرجة أن مراهقًا مجنونًا يعيش في جو أفلام الأكشن الأمريكية تسلل إلى داره ليهدده بالسلاح كي يحصل على أوراق هذا الاكتشاف .. يومها هللت الصحافة ووسائل الإعلام لهذا الاكتشاف العظيم ، وظهر الرجل في كل وسائل الإعلام مستعملاً أسلوب الهالة الذي تكلمت عنه، وقد رسم على وجهه تعبيرًا شبه صوفي لرجل العلم الذي يؤذن في مالطة .. رجل الشارع صار في صف العالم .. رجل الشارع صار يتحدث عن شركات الأدوية العملاقة التي يهمها ألا ينجح اكتشاف هذا العالم المصري .. كل المعركة تدور في الشارع بعيدًا عن المحافل العلمية المتخصصة والمجلات الرصينة، كأنك تناقش طريقة جديدة لتخصيب اليورانيوم مع زبائن قهوة شيحة، ولا أحد يسأل نفسه عن السبب..
وعندما تصرفت جامعة القاهرة العريقة بحكمة ووقار إزاء أساليب الحواة هذه، وعندما بدأ الراحل العظيم يوسف إدريس حملة ضده في جريدة الأهرام مطالبًا بالتعقل، ثار الجميع على هؤلاء .. ورسم مصطفى حسين رئيس جامعة القاهرة يحبس العالم في غرفة الفئران .. ورسمه يترك المريض ينزف على منضدة الجراحة ليتفرغ لتأديب العالم العظيم .. هكذا استغل ذلك العالم خط الدفاع الشهير : إنهم يهاجمونني لأن العلم غريب ومُحارب دومًا في بلد الجهل هذا .. يحاربونني لأنهم حاقدون ولم يصلوا لعلاج الايدز مثلي .. يا ضيعة العلماء وسط الجهلة اللئام !.. لن ينصلح حالك أبدًا يا مصر..
المشكلة أن هناك من قال إن الأبطال تُقذف بالحجارة بينما الورود للموتى، وأن هناك من قال إن من يُضرب في ظهره هو الذي يمشي في المقدمة .. هكذا تكون لدينا اعتقاد دائم أن كل من يحاربه الآخرون هو بطل، وهم يهاجمونه بسبب نجاحه .. أليس من الممكن أن يهاجمني الناس لأنني مخطئ ؟..
هناك فيلسوف بريطاني شهير اسمه (كارل بوبر) تعرض لهذه النقطة بالذات .. قال إن صحة أية نظرية علمية تأتي من قابليتها للنفي، وما لا يمكن نفيه لا يمكن إثباته .. لو أنكرت أهمية ما توصل له هذا العالم المصري أو ناقشته فالسبب أنك حاقد أو تخدم شركات الأدوية العملاقة ..إذن كيف تثبت العكس ؟.. (بوبر) يضع هذه الأمور التي لا يمكن نفيها في إطار العلم الزائف أصلاً.. وعلى كل حال قد مر خمسة عشر عامًا على هذه القصة .. أين علاج الإيدز المصري ؟.. ماذا تبقى من هذه الضوضاء ؟.. لا شيء ...
الآن نعرف من كان على حق ومن كان أحمقا .. فليرحم الله يوسف إدريس العظيم بعيد النظر كالعادة .. الأهم أن إبراهيم سعدة نشر منذ أعوام في جريدة أخبار اليوم مقالاً مترجمًا عن صحيفة فرنسية.. والصحيفة الفرنسية كانت تتحدث عن أدعياء العلم في العالم الثالث .. تخيلوا من الاسم الذي تصدر القائمة ؟.. لقد وجد طريقه – وطريق مصر - إلى العالمية أخيرًا !