سافاري - 30 - قصاصات
الخامس والعشرون من فبراير عام 1964.
سيظل هذا اليوم في ذاكرة أهلي كثيرا.
ترجلت من السيارة و أخذت شهيقا عميقا.
كنت أشعر بشيئين.. الخوف والرهبة.. وفخر لا حد له.
هواء الفجر البارد و تلك الرائحة لنهار لم يتلوث بعد.
سوف تطلع الشمس بعد قليل لكني أعرف جيدا أن احتمالات رؤيتي لها شبه معدومة.
مشيت في ذلك الممر الطويل وحدي.. أصغي للأصوات القادمة من هناك..تلك الأصوات الكريهة التي لم أعد أطيقها..سوف يأتي شخص من بعدي ليفعل كما فعلت أو ما هو أفضل..لكني مهدت الطريق.
ثمة أربعة حراس يقفون في الطريق وهم يدخنون لفائف التبغ..لا ترى منهم سوى الجذوات المتقدة في الظلام.. لكنهم رأوا عويناتي التي تلمع في الظلام ورأوا السلاح في يدي.. لو حاول أحدهم أن يمنعني فسوف تحدث مجزرة.
لكن أحدهم دنا مني وتعرف ملامحي.. أشعل لفافة تبغ و قدمها لي لكني رفضت.. أنا لا أدخن ثم إنني عصبي إلى حد أنني لن أستطيع تصويبها إلى شفتي.
قال لي: حظا سعيدا..هل أنت واثق من قدرتك على القيام بهذا؟
قلت في عناد : نعم.
أنت تفهم.. لن نستطيع المشاركة معك.. لابد من ذر بعض الرماد في العيون.
أفهم.
وتعانقنا.. وشعرت به يبكي.
ثم أزحته في تصميم.. وواصلت طريقي.. مررت بالاثنين الآخرين فتبادلنا النظرات.. ثم واصلت طريقي.
الآن أرى المشهد كاملا.. الخنجر ينغرس في صدري ببطء.. أنا أكره هؤلاء القوم حقا.. إنهم يدنسون أرضي وعالمي.. إنهم يسلبونني راحة البال.
أسندت ظهري إلى العمود الرخامي.. وأخرجت من حزامي قنبلة يدوية و أزحت عنها زر الأمان.
إنهم يسجدون على الأرض.. رؤوسهم جميعا تلامسها.. أعرف أن هذه الليلة هامة لهم لأنها منتصف ذلك الشهر الذي يصومون فيه.. وهذه صلاة الفجر كما يسمونها.. سيكون دوي العملية مجلجلا.
نظرت لهم جميعا.. شيوخ.. أطفال.. رجال.. كلهم يتساوون عندي.
لقد قال الحاخام (موشى ليفنجر) إن أرض هبرون ملكنا.. وإن أنبياءنا دفنوا فيها.. كلنا يعرف هذا.
أنا ولدت في الولايات المتحدة.. كنت أحضر اجتماعات (كاهانا) العظيم هناك ويومها وضع يده على كتفي وقال:
باروخ جولدشتاين.. هذا اسمك ولسوف يكون لك شأن عظيم.. تذكر.. العرب يطلقون عليها اسم الخليل برغم أن لا مكان لهم في تلك الأرض.. هذه أرضنا وعليهم أن يرحلوا.
ثم رحلت إلى إسرائيل و عشت في (كريات أربع) على حدود المدينة.. كنت طبيبا وضابط احتياط في الجيش لكنني ظللت أتحرق شوقا من أجل لحظة كهذه.. خمسة وثلاثون عاما أنتظر لحظة كهذه.
وهاهي ذي قد جاءت.
أنا الآن داخل الحرم الإبراهيمي كما يسمونه.
الآن أقذف القنبلة.
كان الدوي مروعا ولابد أن بعضهم مات قبل أن يعرف أن شيئا ألقي عليه.
هكذا ضغطت على زناد بندقيتي الآلية ورحت أطلق النار على هذه الأجساد..
هذه الأجساد..
هذه الأجساد..
صوت الطلقات مع الصراخ.. صوت الصدى في المدينة الهادئة.. لقد توقف صوت الذي كان يقود صلاتهم فلا بد أنه هلك بدوره.. هذا على الأقل يريح أذني قليلا.
قنبلة يدوية أخرى.. وواصلت إطلاق النار على هذه الأجساد..
هذه الأجساد..
هذه الأجساد..
فيما بعد سيعرف أهلي أنني قتلت 44 فلسطينيا وحدي.. وجرحت سبعين.. كل هذا خلال عشر دقائق.. سوف يحتفلون بي ولسوف يقام لي ضريح في (كريات أربع) يزوره اليهود في الأعياد وسوف يطلقون عليّ لقب القديس.
إن الأمر سهل.. إنهم يتساقطون كالذباب.. أجسر على القول أن الأمر ممتع كذلك.
هناك فلسطينيون يتجهون لباب المسجد غير عالمين أن الحراس قد أحكموا غلقه من الخارج.
سأطلق الرصاص على هذه الأجساد..
هذه الأجساد..
هذه الأجساد..
ياللأسف إن طلقاتي قد نفدت.. مشكلة أية نشوة في الحياة أنها تنتهي.
سأفجر بعض القنابل اليدوية إلى أن ينتهي الأمر.