قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, November 30, 2010

تليفزيون الحارة


عندما تقدم فيلمًا تسجيليًا عن شيء جميل فأنت قد تزيده بريقًا وألقًا وقد تفسده تمامًا.. قناة ناشونال جيوجرافيكس مثلاً تقدّم لنا روائع الطبيعة بالاستعانة بأعظم مصورين ومخرجين على ظهر البسيطة.. النتيجة معروفة للجميع ولا تحتاج إلى شرح. هكذا نحن نتكلم عن روعة الموضوع وروعة تقديم روعة الموضوع!

هذا الفيلم التسجيلي الذي قدمته قناة الجزيرة عن قناة (711) -ينطقونها سفن إليفن- كان قطعة من الفن الرفيع، ويسهل جدًا أن نتخيل ما كان سيحدث لو قدم بالطريقة المعهودة.. مذيعة تصبغ شعرها بالأوكسجين وتحمل ميكروفونًا، وتوجه أسئلة سخيفة، ثم تلتقي بهذا المسئول أو ذاك من مسئولي الشباب في الإدارة المحلية لسمنود. باختصار: برنامج سخيف لا يذكره أحد، ويُذاع في ساعات العصر الميتة.


لحسن الحظ وقع هذا الموضوع في أيدي شباب متحمسين أحبوه جدًا، وكانوا يعرفون ما يفعلون.. "البراء أشرف" مخرجًا وكاتبًا.. و"علي عبد المنعم" كاتبًا.. و"هاني فخري" مصورًا.. و"هاني فريد" مونتيرًا. النتيجة هي فيلم تسجيلي ساحر مدته ساعة، وأعتقد أنه جدير بالمركز الأول في أية مسابقة عادلة للأفلام التسجيلية. يجب أن أؤكد هنا أنني لا أعرف أي واحد من هؤلاء الشباب، وأنني بحثت كثيرًا عن رقم هاتف الأول لأبلغه بمدى إعجابي بهذا العمل.

موضوع الفيلم هو قناة تلفزيونية يعرفها سكان سمنود بمحافظة الغربية جيدًا.. قناة خاصة تُذاع عن طريق الكابل اسمها (711)، وهي محلية جدًا لا تهتم إلا بما يدور في محيط سمنود..

لمن لا يعرف؛ سمنود مركز من مراكز محافظة الغربية يقع قرب المحلة الكبرى. كانت عاصمة الأسرة الثالثة في مصر القديمة وتعجّ بالآثار، وكانت فيها وقفة مهمة أثناء رحلة العائلة المقدسة، كما أن اسمها يُذكر كثيرًا في تاريخ الحملة الفرنسية على مصر؛ لأنها كانت تتعاون مع المنصورة البلدة المشاغبة المجاورة.. من أبناء سمنود مصطفى باشا النحاس ود.نصر فريد واصل والصحفي جلال دويدار والفنانون: أمينة رزق وعبد المنعم إبراهيم وسهير المرشدي. لكن سمنود في النهاية بلدة صغيرة جدًا وفقيرة، لهذا يغدو من الغريب أن تكون لها قناة محلية خاصة..

يلتقط الفيلم هذه الجوهرة النادرة المثيرة ويقدمها لنا. يعرفنا على المسئولين الثلاثة عن هذه القناة، والذين ينتجون ويصوّرون ويكتبون ويُخرجون ويبثون.. ويفعلون كل شيء. صاحب الفكرة نفسه من الطراز الذي يوشك على الانفجار من المواهب التي لا يعرف كيف يقدمها.. صحيح أنها مواهب خشنة جدًا وفطرية، ولم تحظ بثقافة تصقلها، لكنه نموذج مثير بكل تأكيد.. عمل كمونولوجست لفترة، وهو شاعر عامية ومصوّر هاوٍ ومخرج، ولديه خلفية ممتازة في الإلكترونيات.. هذا هو بطل الفيلم الأول الذي يجعلنا الفيلم نعيش معه ونركب معه "المكنة"، ونلعب معه الكرة الشراب في الحارة، ونجلس معه على المصرف ليلاً نشرب الشاي.. حالم لا يتوقف عن الحلم، لدرجة أنه يكتب مسلسلاً إذاعيًا يمثل فيه ويخرجه، ويحلم بأن يحوله يومًا ما إلى مسلسل تليفزيوني. يصور حفل زفاف في حارة.. حفل زفاف شعبيًا من الطراز الذي تحضره الحارة كلها، ويلبس فيه العريس بذلة سكرية اللون، وتؤجر العروس ثوب الزفاف.

يجلس مخرجنا مع طفلة جميلة ليعلّمها كيف تقدم فقرة دعاية للقناة، و"يتقصّع" في دلال ليعلمها كيف تقول "عقبال عندك يا أم فاروق".. ثم يصوب الكاميرا على الطفلة، ويصوّر أداءها مرارًا.. كل شيء حقيقي.. كل شيء له رائحة.. كل شيء أصيل.. الألوان الفاقعة "الملغْوَصة" نوعًا، والذوق الشعبي البسيط.. إن الفيلم يقترب جدًا من الناس البسطاء، ولأنه أحبهم حقًا فقد استطاع أن يجعلك تحبهم...

إنهم طبيعيون جدًا، وقد صار من رابع المستحيلات أن تقابل شخصًا طبيعيًا في هذا الزمن. لا توجد ذرة ادّعاء لديهم.. وهذا ما نجح الفيلم في اقتناصه.

مع الوقت كوّن الرجل فلسفته الخاصة بالحياة، وهي فلسفة طريفة بدورها تنبع من عمله: 
ـ "أنا حطّيت كل أحلامي على الديسك توب.. ما عنديش أحلام مؤجّلة. بس باقلب أحلامي زي ما بنقلب الوصلة.. كل شوية أجرب حلم جديد.."

ثم يتحدث عن السادة البعيدين جدًا عن عالمه: ـ "هما عندهم الواسطة.. وإحنا عندنا الوصلة".

إنه موجود.. إنه حي.. يتكلم وهناك من يسمع صوته وينتظره.. فليذهب السادة إلى الجحيم. كل سمنود تعرف قناة 711 وتنتظرها وتحول المؤشرات لها. لكن القناة لا تقتصر على الإعلانات، فهي تقدم المباريات الرياضية، وتقدم الأفلام الأجنبية التي يحملها من الإنترنت.. ولأنه يعرف ما يريده الناس ولأنه منهم، فهو يجري عملية حذف للقطات العارية من الأفلام بنفسه.

إنهم يلعبون بالنار ويقتربون منها جدًا.. لا بد أن أكثر من جهة أمنية تراقب قناة كهذه؛ خشية أن تتطرق إلى موضوعات سياسية، لكنه لا يقع في الفخ.. يؤكد مرارًا "مالناش دعوة بالسياسة"، وهو الدهاء المصري القديم الذي يتعلمه المصريون مبكرًا.. ابتعد عن الحكومة بأي شكل.. احنِ رأسك لحامل مفاتيح الفرعون؛ كي يظل بيتك مفتوحًا.. لتكن لك حياتك الخاصة المنفصلة عنها. هو كذلك يعرف أن "ذئب المصنفات الفنية" يعوي ويتشمم الهواء، ولسوف يخرج للظفر بهم بالتأكيد.. لا بد أنهم أجروا بروفة ذلك اليوم مرارًا..

قناة يقدمها ثلاثة من متوسطي التعليم في حارة، الدليل الحي على أن الشعب المصري مشاكس واسع الحيلة، ولا يموت أبدًا. عندما لا يصير العالم عالمه فهو يخلق عالمًا خاصًا به.

هذا ما أعجبني في قناة 711، أما عن النعومة والحب اللذين قدم بهما الموضوع فحدث بلا حرج. بمزيج من حساسية الصحفي والفنان والصائغ تمكّن صناع الفيلم من التقاط هذه الجوهرة، ولمدة ساعة شعرت بأنني أحب سمنود، وأحب هذه الحارة وهؤلاء القوم. تحية لـ"البراء أشرف" و"علي عبد المنعم"، وكل من قدّموا هذا العمل، ليصنعوا هذا الجمال المركب الذي لا يوصف ولكن يُشاهد.