شهدت التسعينات ظهور ثلاثة أسماء سيطرت بقوة على الفكر الغربي: (أسبوزيتو) الذي صار مقترنًا بفكرة الخطر الإسلامي الذي جاء ليحل محل الخطر الشيوعي. و(هانتجنتون) الذي صار مقترنًا بصراع الحضارات .. و(فوكوياما) الذي صار مقترنًا بنهاية التاريخ .. كلهم من الأسماء اللامعة في مؤسسات صنع القرار الأمريكية التي يطلقون عليها (خزانات التفكير Think Tanks) وهم يتقاضون رواتب جديرة بأن تكرههم فعلاً إن لم تكن عندك أسباب أخرى.. من الأسماء العولمية المهمة كذلك الصحفي الأمريكي اليهودي توماس فريدمان الذي لمع في الشرق الأوسط كوجه جذاب لبق قادر على شرح العولمة بوضوح، وهو كاتب عمود الشؤون الخارجية في صحيفة نيويورك تايمز الذي وصف وظيفته بأنها (أهم وظيفة في الكون).. وله كتاب مهم جدًا هو (السيارة اللكساس وشجرة الزيتون - 1999)، لكننا ندرك على الفور أن فريدمان يبشر بدولة واحدة عظيمة ديمقراطية مسالمة وديعة اسمها (إسرائيل).. كما أنه يدعو لمبادئ أقل ما يقال عنها إنها قاسية مثل مبدأ (الاستعداد لقتل جرحاك)، أي أن تتخلى بلا ندم عن أي مشروع خاسر ولا تحزن على العمال المطرودين أو قيم الماضي التي لا نفع لها.
يواصل فريدمان حملته التبشيرية في كتابه (العالم مسطح: : تاريخ مختصر للقرن الواحد والعشرين) .. معنى كلمة (مسطح) أنه (متواصل).. زوال الحواجز التجارية والسياسية وتطور الثورة الرقمية جعل من الممكن القيام بالبيزنس في ثوان مع بلايين البشر الآخرين عبر الكوكب. يعقد فريدمان في البداية مقارنة بين رحلته إلى الهند والصين ورحلة كولومبوس لاكتشاف عالم جديد، وهكذا يمكن قراءة العنوان على أنه يذكرنا بخوف بحارة كولومبوس من أن سفنهم ستقع خارج حافة العالم المسطح. يرى فريدمان أن مدينة بنجالور الواقعة جنوب الهند هي (العالم الجديد) الذي اكتشفه. ويحذر الكاتب من جدية التحدي الذي تشهده الولايات المتحدة من نموذجي الهند والصين في هذا العالم المسطح. لقد فوجئ بأن بيانات ضرائب أربعمائة ألف أمريكي موجودة في بنجالور، وأنك إذا اتصلت في الولايات المتحدة تشكو خللاً في بطاقة الفيزا، فإن من يرد عليك ويمزح معك هو موظف هندي في ولاية بنجالور !... رأينا فيلمًا في الجزيرة حول هذا الموضوع، ورأينا كيف أن الهنود يتدربون على اللكنات الأمريكية المختلفة حتى لا تشعر بالغربة لو كنت من فلوريدا وكلمك عامل الهاتف بلكنة نيويورك !
لماذا صار العالم مسطحًا ؟.. ينسب هذا إلى عشرة عوامل أهمها سقوط الاتحاد السوفيتي ونهاية حلف وارسو. ثم الثورة العظمى في الإنترنت وبرامج البحث مثل (نت سكيب) الذي ظهر عام 1995 التي جعلت تصفح الإنترنت لعبة أطفال، ثم سعي الشركات العملاقة لتخفيض الإنفاق من خلال توظيف عمالة رخيصة بعشر تكلفة نظرائها الأميركيين. ذلك فضلا عن استيراد الشركات الضخمة في الولايات المتحدة لأدوات الإنتاج بأسعار زهيدة من الهند والصين بدلا من القيام بتصنيعها في الداخل. وإنشاء مصانع الإنتاج في دول جنوب شرق آسيا.. "حينما يكون العالم مسطحًا يمكنك أن تبتكر دون أن تهاجر من وطنك !"
يشير فريدمان إلى أن شركة ديل لأجهزة الكمبيوتر لم تعد تقوم بدور صيانة أجهزتها حتى ولو أنها تتعهد بذلك، حيث أصبحت شركة البريد فيدكس تستخدم مهندسي كمبيوتر في مخازن الشحن التي تستعملها ، وهؤلاء يقومون بمهمة الإصلاح والصيانة لأجهزة الديل، أي أن الشركات تتعاون بشكل غير مسبوق.
يقسم فريدمان تطور العولمة إلى 3 مراحل.. مرحلة حتى عام 1800 حين اعتمدت الأمور على الدول الاستعمارية . ثم من 1800 حتى عام 2000 حين اعتمدت على الشركات متعددة الجنسيات، ثم المرحلة من 2000 حتى الآن حين صارت مسئولية الأشخاص المتفوقين الأذكياء. ويطلق على المرحلة الثالثة اسم G3..
ليس فريدمان متشائمًا لكنه قلق، يشعر أن السيطرة الاقتصادية والتكنولوجية تفلت من الولايات المتحدة ..ويستشهد بكلام بيل جيتس: "حينما أقارن مدارسنا الثانوية بما أراه في الخارج أشعر بالرعب .. يظل طلبتنا حتى الصف الرابع هم الأفضل في العالم في الرياضيات والعلوم ، لكن في الصف الثامن يصيرون في الوسط.. حينما يبلغون الصف 12 يكونون في قاع التعليم .. عام 2001 تخرج في الهند مليون طالب جامعة أكثر من أمريكا، وهناك ضعف عدد طلبة البكالوريوس في الصين. ولديهم ستة أضعاف الخريجين الذين يدرسون الهندسة عندنا .. إن أمريكا تتهاوى"
دعك من افتقار الحافز لدى الطلبة.. في الصين بيل جيتس هو بريتني سبيرز بينما في أمريكا بريتني سبيرز هي بريتني سبيرز.
ثم يقدم فريدمان هذا الإنذار: " في عصر العالم المسطح ينبغي على الأبناء أن يدرسوا بجدية وإلا فاز بوظائفهم واحد في الهند أو الصين.. لن نجد إلا الدكتور كومار ليكون طبيب الحي، والمهندس كيماوا ليدير مصانعنا!.."
هذا يقود لاستنتاج عجيب هو أن انتصار العولمة يصاحبه انهيار مؤكد لأمريكا ! .. لقد فهم الآسيويون اللعبة ولعبوها أفضل من الأمريكيين ..
وماذا عن دورنا نحن في هذا كله ؟...لم يتجاهلنا بل خصص آخر 100 صفحة للكلام عن الإسلام العالمي وهو كالعادة يربطه بالإرهاب ويطلق على القاعدة اسم (الإسلاميين اللينيين) .. إنها التعبير الصادق عن فشل العرب في كل مجال آخر.
كعادته يرى فريدمان أن العرب خسروا معركة العولمة ولا دور لهم في اقتصاد السوق والتجارة الحرة والديموقراطية، وبالتالي لا دور لهم إلا كخطر محتمل في القرن الحالي. ويرى أن أمريكا قللت اهتمامها بالتكنولوجيا بسبب انشغالها بالنظر للشرق الأوسط . في هذه اللحظة بالذات وثب العالم للأمام وأسرعت الثورة التقنية. إن التقدم يصنعه أشخاص في الهند والصين، وحتى القاعدة فهمت ثورة الاتصالات بطريقتها.
إنه تحذير لكنه ليس متشائمًا كما قلنا وهو ما يراه بعض الأمريكيين نوعًا من الحمق، لأن بوادر الكارثة بدأت فعلاً... إن الآسيويين سريعو التعلم .. ومعدل ذكائهم أعلى 10 مرات من الأمريكان. وقد تحركوا من أسفل سلسلة الانتاج البسيط الذي يديره الأمريكان إلى تصميم أدوات جديدة ثم تصنيعها. ويعتقد المتشائمون من خصوم فريدمان إن الآسيويين سيسيطرون على كل شيء فلا يبقى للأمريكيين إلا التوزيع في بلادهم. والحقيقة المقلقة لهم هي أن المهاجرين الهنود المتميزين يتركون الولايات المتحدة ويعودون لبلادهم !!
كتاب ممتع بلا شك ككل كتابات هذا الوغد الظريف طلق اللسان. إنه يخبرك أن العالم سيكون رائعًا لكنك ستضيع لو لم تتنبه إلى أن وظيفتك سيفوز بها صيني أو هندي في أقرب فرصة