يحكي الأستاذ محمد حسنين هيكل عن شاه إيران في أيامه الأخيرة، عندما شعر بوجود مظاهرات عارمة في الشوارع فأرسل خادمه العجوز إلى خارج قصر الطاووس ليتحرى الأنباء، وعاد الخادم ليقول له ما يرغب في سماعه: المظاهرات محدودة يقودها بعض الشيوعيين ولسوف تخمد سريعًا. لكن الشاه لم يسترح لهذا الكلام، فركب طائرته الهليوكوبتر سرًا وحلق في سماء طهران ليرى بعينه كل هذه الحشود التي أمضت ليلتها في الشوارع. وقد سأل طياره في ذهول: هل كل هؤلاء يتظاهرون ضدي؟. لم يرد الطيار وكانت هذه على كل حال إجابة كافية جدًا. على أن الشاه لدى عودته للقصر أصيب بحالة بارانويا كاملة جعلته يشك في الجميع، وأصدر تعليماته بألا يزور جناحه أحد حتى الامبراطورة ذاتها..
إنها اللحظة المحتومة حينما يدرك الطاغية الحقيقة .. إنه لا يملك أية شرعية لدى شعبه وإنهم يمقتونه حقًا .. لا صحة لكلام الحاشية ولا مستشاري السوء .. ليس المتظاهرون (قلة حاقدة) وإنما هم الشعب ذاته بلا نقصان .. وهذا يدلنا على حقيقة أخرى مهمة: حتى أعتى الطغاة يعاني حاجة نفسية ملحة لأن يشعر بأنه على حق وأن هناك من يؤيده .. وانهيار هذا المعتقد قاس جدًا بالنسبة له.
كان هذا في الأيام السعيدة التي يضطر فيها الحاكم إلى ركوب الهليوكوبتر أو الخروج متخفيًا ليرى بعينيه كراهية شعبه له، أما اليوم فالكراهية نفسها تتسلل إلى غرفة نوم الحاكم عبر شاشات الفضائيات..
يحدث هذا برغم آلاف المفسرين والمؤيدين ذوي موهبة تبرير كل ما يقوم به الحكام .. يذهب الحاكم لمؤتمر (الفسكونيا) فيسودون الصفحات يشرحون فيها أهمية أن ننضم إلى تيار (الفسكونيا) أخيرًا لأن الزمن غير الزمن وقواعد اللعبة تبدلت، ثم ينسحب الحاكم من مهرجان (الفكسونيا) فيسودون عشرات الصفحات عن عبثية (الفكسونيا) وذلك الوهم الذي ما زال البعض يعيشون فيه. وهي بحق موهبة تستأهل ما ينالون من أجور ومزايا.
إن موقف الحكام اليوم أقرب إلى الكوميديا السوداء لو كانوا يرون الفضائيات - وهو الاحتمال الأرجح من باب الفضول على الأقل - ويسمعون كل ما يقال ضدهم بلا قيود ولا رقابة .. خاصة مئات المداخلات عبر الهواتف الدولية والتي يستخدم أصحابها أسماء مستعارة، ويتصلون من هواتف عمومية على الأرجح. ثمة من يتهمهم بالعمالة والكفر، ومن يتهمهم بالجبن والتخاذل، ومن يحكي الفظائع التي حدثت له على أيدي عسسهم. هكذا تتولد علاقة فريدة من نوعها جديرة بالدراسة
لم يعد واحد من الحكام العرب يملك أية أوهام بصدد شعبية مزعومة يحاول الشيوعيون أو الأصوليون تدميرها .. لقد صارت الأمور واضحة واللعب (على المكشوف).. إنهم يكرهونني كالجحيم وأنا كذلك أكرههم .. ولولا عصا الأمن الغليظة لحولني هؤلاء إلى أشلاء ..
من هنا تتولد عقدة السجان المعزول في محيط يمقته.. إنه أكثر الناس قلقًا في السجن. وتدريجيًا يفقد أي ولاء كان يحسبه لديه تجاه شعبه.. فهو غير مدين للناس ببقائه وإنما هو مدين للأمن وللقوى الخارجية ، وليست عليه التزامات من أي نوع تجاههم .. إنها علاقة من انعدام الثقة والمقت المتبادل .. يقول المثل العامي إنه حينما مات كلب العمدة ذهبت البلدة كلها للعزاء، فلما مات العمدة لم يكلف أحد خاطره .. وقد أدرك الحكام هذه الحقيقة وعرفوا أن قيمتهم الوحيدة هي المنصب والقوة ..
هل يعني هذا أن الفضائيات أدت إلى تدهور علاقة الحاكم بالمحكوم في الدول الشمولية ؟.. هذا التدهور موجود وكان سيتفاقم عاجلاً أم آجلاً، لكنها أدت المهمة بشكل أسرع وبأسلوب (توصيل الخدمة إلى المنازل). فلم تعد ثمة مصداقية لمن يكذب على الحاكم بينما لا مصداقية لمن يكذب على الشعب قبل الفضائيات بزمن سحيق. أما إلام يفضي هذا الغليان وهذا الحراك الجيولوجي كله فالعلم عند الله.