هذه قصة وجدتها على شبكة الإنترنت تحكي عن زوجة سافر زوجها إلى الخارج، فاشتاقت له (وكانت متقنــة للبرمجــة اللغويــة العصبيــة) فراحت تسترخــي وتــردد بينــها وبيــن نفسهــا: لــن يطــول غيابــك .. ستعــود غــداً ..وبالفعــل كــان لهــا ما أرادت ... أتــى الزوج في اليــوم التالـــي .. هــل تعلــم أنك بإمكــانك عن طريـــق تمرســـك بالبرمجــة أن تبرمــج عقــول الآخريــن على فعــل أشيــاء لا يرغبونهــا؟ ... هل تعلم أن العالمــة بالبرمجــة وبتفسيــر الصفــات عن طريــق ملامح الوجــه بدولة الكويت استطاعت أن تبرمج لاعبًا بالملاكمــة على الفوز ببطولــة عالميــة من خلال بثــها لعقــله بإشــارات : ستعــود لأرض الوطــن حامــلاً الكــأس ؟.. هــل تعلــم أن هــذا العلــم استطــاع عن طريــق الله سبحانه وتعالى ثم بالإيحــاء شفــاء أمراض مثل السرطــان، عن طريــق رسم دائرة بالأرض والمشــي يوميــاً عليهــا ذهاباً وإياباً فيتقلــص حجم الدائرة مع عظيــم إيمانــك بأنك تشفـى وأن الدائـرة هـي مرضــك، وسوف تصغر وتصغر وتصغر إلى أن تزول..
نحن لا نتكلم عن تعويذة سحرية أو نوع من الأعشاب المباركة هنا .. أعتقد أن القارئ الكريم قد عرف أننا نتكلم عن (البرمجة اللغوية العصبية NLP) التي صار لها جمهور لا بأس به من المتحمسين في العالم العربي، وصارت تعقد لها الندوات في أكثر من جامعة، كما صارت لها دورات باهظة الثمن ولها مؤمنون بها إلى درجة التعصب كما في المثال الذي قدمته في بداية الكلام، وبالطبع أكثرهم حسن النية يؤمن بما يقول فعلاً ..
هناك شاب مثقف أراد إقناعي بألا أهاجمها لأن هذا قد يؤدي إلى إعطاء فكرة خاطئة عنها لدى الشباب، وهي مسئولية أتحملها أمام الله .. أصابتني الدهشة من هذا .. هل هو دين جديد يجب ألا نجدف فيه، أم هي مجرد نظرية تحتمل الخطأ والصواب ؟ أعتقد أن الإجابة أقرب إلى الاحتمال الأول .. هناك دعوة ومؤمنون وهناك أنبياء متأنقون يجوبون الجامعات يبشرون بالنور الجديد ، وهناك دورات غالية بالفيديو بروجكتور يقدمها رجال بقمصان قصيرة الكمين وربطات عنق.. لابد أن الأمر محترم إذن ....
عندما تناقش هذه الظاهرة وتقول إنه لا جديد تحت الشمس، وإنه ذات النصب (الكارنيجي) المعروف في ثوب معاصر، يقولون لك: لا تتكلم بدون علم .. أنت لا تعرف إلا قشرة عن الموضوع وهو أعقد من هذا بكثير .. نحن الكهنة وحدنا لنا الحق في إبداء الرأي .. أما أنت فتدفع وتسمع وبس .. لو كنت تعتقد أننا نمارس أساليب (كارنيجي) العتيقة فهذا دليل على أنك لا تفهم شيئًا على الإطلاق .. هكذا نعود من جديد لدائرة الخرافات التي يعطونها طابعًا شبه ديني لحمايتها .. البرمجة تشفي السرطان بإذن الله، وتسيطر على العقول وتعيد الزوج الغائب وتشفي الجرب وتقتل البراغيث.. لا تهرطق ولا تتكلم من دون علم .. الموضوع أعمق مما يستوعبه عقلك السطحي ..
فقط هم لا يتكلمون عن العلاج بالحمام ولا الأعشاب .. هم يتكلمون عن علم .. إنه بيع الترام لكن بكروت الفيزا وبأحدث تقنيات العصر .. أرقى صور النصب وأشيكها لشباب العصر المحروم من كل شيء، والذي تعده فجأة بأن يسيطر على عقول الآخرين ويؤثر فيهم ويأخذ منهم أفضل شيء ممكن .. عرفت شبابًا ادخروا كل مليم وجدوه كي يجمعوا ثمن اجتياز هذه الدورات والحصول على شهادة ..
كما قلت سابقًا كانت أهم نتائج العولمة أن بعض الأذكياء عندنا درسوا مدارس النصب الأمريكية جيدًا، وعرفوا من أين وكيف يصنع هؤلاء المال، هكذا اكتشفوا هذا الوريد الثري ونقلوه لنا .. في كتاب (كلام فارغ) للرائع (أحمد رجب) قصة بعنوان (أمريكاني) تحكي كيف أن بطل القصة كانت لديه مكتبة زاخرة بالكتب الأمريكية التي تجعلك أفضل وأنجح على الطريقة الكارنيجية .. من ضمن الكتب واحد يجعلك تقلع عن التدخين من دون قوة إرادة ولا عذاب الامتناع ولا هباب .. وبأسلوب أحمد رجب العبقري الساخر يحاكي كلمات المؤلف الأمريكي في الصفحة الأولى: "أشعل سيجارة .. لن أقول لك أن تقاوم .. بل أطلب منك أن تشعلها وتجذب نفسًا .. لذيذة ؟.. هه...؟.. سوف أتركك إلى أن نلتقي في الصفحة القادمة بعد ما تكون أنهيت هذه السيجارة !" .. وتنتقل لصفحة 4 و5 و154 فتجد نفس الكلام !.. النتيجة هي أن الرجل الذي قرأ الكتاب ارتفع معدل تدخينه من علبة إلى ثلاث علب يوميًا ! لم أكف عن الضحك كلما تذكرت هذه القصة وأنا أقرأ تلك النماذج التي يقدمونها..
كلام عام تعرف أكثره ويستحيل تطبيقه أو الاستفادة منه، ويذكرك بدورات علم النفس التي يتلقاها مندوبو الدعاية، لكنهم ينظمونه بطريقة أنيقة (مؤسسية) تجعل الفرار مستحيلاً.. دعك من أن الكلام فيه درجة من السهولة تتيح لأي واحد فهمه، لكنه كذلك فيه درجة من التعقيد تجعل من فهمه يشعر بالرضا عن ذكائه ..
العالم الكندي بايرستاين اعتبر هذه البرمجة (خرافة عصبية) وحذر من أنها ستؤدي إلى تدهور مخزوننا الشحيح أصلاً من المنهج العلمي.. بينما يقول العالم ديفيلي عام 2005: بدأت ورش التدريب والعمل وأفلام الفيديو الخاصة بالبرمجة اللغوية العصبية تباع في كل مكان.. لكن الباحثين بدأوا مع الوقت يدركون أنها نظرية غير قابلة للإثبات ولا جدوى من مزيد من البحث فيها .. لم يعد هذا العلم مبهرًا كما كان في الثمانينات .. لقد جاء هذا العلم ورحل لكن الفكرة ظلت حية . بينما يقول عالم اسمه إيزنر: كان هناك حماس شديد لهذا العلم ثم بدأ يخبو إلى أن انتهى فعلا..
الحقيقة أن علماء الدين ارتابوا في هذا العلم واعتبروه كائنًا فضائيًا غريبًا، وبعضهم وجد أنه أقرب ما يكون إلى فكرة البانثستية وألوهية الكون، لكني أعتقد أن هذا نوع من المبالغة .. في كل ما قرأته عن الـبرمجة اللغوية العصبية -اسم طويل صعب أخطئ في تذكره كل مرة- لم أجد بصراحة أي لعب على العقائد الدينية، ورأيي المتواضع أن هناك كثيرين هاجموها من الناحية الدينية قبل أن يعرفوا ما هي ولمجرد أنها كائن غريب .. هناك فارق كبير بين أن تكون البرمجة كلامًا فارغًا بغرض جمع قرشين وأن تكون كفرًا صريحًا كما يوحي كلامهم، وبرغم هذا تجد تحذيرات ثقيلة جدًا من طراز (وهذه البرمجة العصبية وما يسمى بعلوم الطاقة تقوم على اعتقادات وعلى قضايا غيبية باطنية مثل الطاقة الكونية والشَكَرات والطاقة الأنثوية والذكرية، والإيمان بالأثير وقضايا كثيرة جداً، وقد روّج لها مع الأسف كثير من الناس مع أنه لا ينبغي بحال عمل دعاية لها) الشيخ سفر الحوالي من جامعة أم القرى .. الشيخ عبدالرحمن المحمود أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود يقول: (أمرها بدأ يتكشّف.... نعم انقلوا عني يجب إيقاف هذه الدورات، وأنا أحيي القائمين على تحذير الناس منها وفقهم الله).. بينما يقول الشيخ القرضاوي مع ما نعرفه عنه من اعتدال واحترام للعقل: (البرمجة اللغوية العصبية تغسل دماغ المسلم وتلقنه أفكارًا في اللاوعي ثم في عقله الواعي من بعد ذلك، مفاد هذه الأفكار أن هذا الوجود وجود واحد، ليس هناك رب ومربوب، وخالق ومخلوق، هناك وحدة وجود. إنها الأفكار القديمة التي قال بها دعاة وحدة الوجود، يقول بها هؤلاء عن طريق هذه البرمجة التي تقوم علي الإيحاء والتكرار، وغرس الأفكار في النفوس). ثم يقول الدكتور صالح بن علي أبو عرَّاد أستاذ التربية الإسلامية بكلية المعلمين في أبها: كفى عبثاً يا دعاة البرمجة العصبية المزعومة ..
على كل حال يمكن تلخيص آراء منتقدي هذا العلم من العرب كما يلي: - الاسم غامض ومشوه ومريب .. من الغريب أن هذا هو رأي العالم بيتر درنث عام 1999 الذي اعتبرها علمًا مزيفًا، وقال لماذا يكون اسمها كذا ؟.. لم لا تكون BYG بمعنى Believe your goal مثلاً ؟ - هذه البرامج المزعومة أصبحت عند الكثيرين ممن فُتنوا بها تُمثل المخرج الوحيد لجميع مشاكل الناس على اختلاف مستوياتهم وفئاتهم الاجتماعية.. - هذه البرامج عبارة عن خليطٍ من العلوم المختلفة التي تقوم على التخيل والإيحاء والمنطق، تعتبر الإنسان في كثيرٍ من الحالات مجرد آلةٍ صماء يمكن إعادة برمجتها حسب الطلب ، ومن ثم تشغيلها وفقاً لتلك البرمجة ؛ ولذلك فإن كثيراً من المهتمين بها يعدونها برامج لهندسة النفس الإنسانية .. في المقال القادم نتحدث بالتفصيل عن نشأة هذه البرمجة الـ .. الحركية العصبية .. اللغوية الحركية . اللغوية العصبية .. ونحاول فهم ما تريده بالضبط .