في عموده (الفهامة) بجريدة أخبار اليوم بتاريخ 13 نوفمبر 2004، قرأت بكثير من الدهشة ما نشره الأستاذ أحمد رجب على لسان الدكتور عمران البشلاوي الذي وصفه الخبر بأنه (صاحب نظرية المناعة العربية).. يعلم الله ما هي. وقد أعدت قراءة الخبر عدة مرات للتأكد من أنني لا أحلم. فبعد اكتشاف فيروس التهاب الكبد سي بنحو خمسة عشر عامًا ومعرفة كل شيء عن تركيبه الجزيئي، وبعد ما عقد ألف مؤتمر - بلا مبالغة - تناقش كل شاردة وواردة عن الفيروس وابتكار لقاح له وأفضل طرق علاجه، وبعد ما كرس علماء مصريون أجلاء بينهم أسماء ليست أقل من عبد الرحمن الزيادي وياسين عبد الغفار وسمير قابيل حياتهم من أجله، يلقي علينا الدكتور عمران بقنبلته المدوية: لا يوجد فيروس سي بل هي مؤامرة أمريكية قذرة. المشكلة أن هذا الكلام يأتي في أهم موضع تقع عليه عين القارئ في الصحافة المصرية، وبلسان من يحمل الدكتوراه كما قال المقال !
تذكرت طبيبًا آخر أفردت له جريدة الشعب صفحة كاملة منذ أعوام ليلقي بقنبلته: لا يوجد مرض إيدز ... أمريكا هي التي اخترعت هذا الوهم لتساعد على نشر الشذوذ الجنسي !.. وتأمل معي المنطق المختل برغم أننا نزعم أننا العرب سادة المنطق: أمريكا تريد ترويج الشذوذ الجنسي لهذا لفقت مرضًا وأعلنت أنه ينتقل بالشذوذ الجنسي !
قبل هذا بأعوام زعم أستاذ جراحة شهير أنه ذهب إلى كينشاسا شهرين فقط اكتشف خلالهما علاج الإيدز ثم عاد !.. في تلك الفترة تبناه كتاب كثيرون، وهاجموا عميد كلية الطب والكاتب الراحل يوسف إدريس لأنهما جرؤا على التشكك في صحة هذا الكلام.. بعد أعوام رأينا صورة هذا الطبيب في الصحف العالمية الفرنسية، ليس لتمجيده ولكن كنموذج لأدعياء الطب في العالم الثالث، وقد كتب الأستاذ إبراهيم سعدة مقالاً كاملاً عن هذه الفضيحة !
المشكلة أن من يشكك اليوم في الفيروس سي هو كمن يشكك في وجود الأفيال !.. تخيل أن يأتي اليوم من يقول: الأفيال لا وجود لها يا جماعة بل هي خدعة قذرة ابتكرتها حدائق الحيوان !.. بالضبط نفس وزن الفضيحة والخبال والإصرار على الخطأ .. وهذا الطراز من المقولات لا يجد طريقه أبدًا إلى المجلات الطبية ، ولكن يجد طريقه إلى الصحافة غير المتخصصة لأسباب واضحة، لكني ألقي باللوم كله على هذا الطراز مما يطلقون عليه (طب المصاطب) حيث لا تجريب ولا توثيق ولا دراسات إحصائية ولا شيء .. مجرد كلام يلقى على عواهنه من عقول أغشتها أبخرة نظريات المؤامرة، والرغبة في الشهرة بأي شكل.
وبرغم هذا تظل غريزة الشك هذه بئرًا يضخ المال لجهات عدة .. ونحن نعرف كم من مليارات حققتها الشركات من الترويج لمنتجاتها التي تعيد تعبئة حبة البركة والثوم (ولماذا لا يستعملهما المرضى مباشرة دون تعبئة؟) كبديل عن الطب المجرب الموثق علميًا، مع إضفاء هالة شبه دينية على الأمر تهدد باتهامك بالكفر لو اعترضت.. وفي النهاية يعترف المرضى في خجل وبصوت خافت بأنهم لم يحققوا ذرة شفاء. ربما كان الثوم رائعًا .. بالفعل هو كذلك .. ولكن الأمور ليست لعبة .. لابد من مرور الدواء بمراحل شاقة (أربعة أطوار) قبل أن يقال إنه فعال.
لكن الوضع الحالي هو أن كل من يسكن في بيت ريفي لديه في أرضه نبتة سحرية لا يعرف اسمها ولا خواصها .. لكنه مؤمن بأنها تشفي القلب أو السكري أو السرطان لو قام بغليها وشرب النقيع مرتين يوميًا. إن قصص استخدام الحمام لعلاج الفيروس سي ليست ببعيدة ولم تحدث على كوكب آخر. وفي بعض الوصفات الطبية الشائعة تجد طريقة فعالة لعلاج العقم عند الرجال عن طريق تجفيف ذكر الذئب، وابتلاع مقدار حبة منه يوميًا !.. هل هذا طب ؟.. إنها من وصفات الأطباء السحرة البدائيين، وعلاج الجزء بجزء مثله أسلوب معروف في ممارسات السحر منذ القدم .. لكن هناك من لا يقبلون عن هذا الكلام بديلاً..
المشكلة هي في عقلنا الذي يؤمن إيمانًا مطلقًا بالشائعات ويرحب أشد الترحيب بالخرافة، ويؤمن بأسلوب نقل الكلام شفاهة بدلاً من التجريب المحكم الشاق. قد تكون هذه طريقة جيدة في دراسة معلقات الشعر الجاهلي، لكنها لا تصلح أبدًا لابتكار علاج جديد .. لم تتقدم أوروبا علميًا وتصل إلى ما وصلت إليه إلا عن طريق كانط وديكارت وفولتير الذين علموا العقل الغربي كيف يفكر وكيف يقيس. والنتيجة واضحة الآن .. بوسع أي جندي أمريكي أن يجلس مسترخيًا أمام جهاز وفي يده علبة الكولا .. وربما يصغي لموسيقا الروك كذلك ..يضغط زرًا فتزول مدينة عربية عن الخارطة بكل من فيها من عباقرة يصرون على غلي أوراق النبق لعلاج السكر بدلاً من ابتلاع قرصين من (الجليبكلازيد)...
الخلاصة أنني أدعو الله أن يكون الأستاذ أحمد رجب لم ينقل ما قيل بدقة لأنه غير متخصص، وإلا فنحن في كارثة علمية حقيقية