قال لي صديقي الفنان الموهوب: قل ما شئت، لكن أفضل فنان كاريكاتور عرفته مصر بعد صلاح جاهين هو مصطفى حسين ..
قلت له: لكن خطوطه سهلة التقليد، وهناك رسام صحفي معروف لا يفعل سوى أن يقلده حرفيًا حتى أطلقوا عليه (مصطفى حسين تقفيل تايوان)، كما أن هناك جيلاً من الشباب لا يفعل إلا الرسم مثله. قال لي في ثقة: هذا كلام معه لا ضده.. تذكر أن أحدًا لم يرسم ميكي ماوس قبل ديزني .. أي طفل يستطيع بإصبع واحدة أن يعزف (أهواك) لكن أحدًا قبل عبد الوهاب لم يعزفها..
ثم أردف: لقد خلق مصطفى حسين أنماطًا وحلولاً بصرية لا سابق لها .. وبالنسبة لرسم البورتريه هو الفنان الوحيد على مستوى العالم الذي نجح في نقل روح صدام حسين لا ملامحه فقط .. إنه الأستاذية تمشي على قدمين ..
تذكرت هذه الكلمات عندما نشر مصطفى حسين ذلك الكاريكاتور الشهير سيئ السمعة، الذي يظهر المعارضة تنبح كالكلاب بينما رجل يقول للآخر إنهم شموا رائحة الديمقراطية فأصابهم السعار .. كاريكاتور فظ وقاس ويفتقر للحنكة، بل إنه يعكس في ثناياه زلة لا شعورية خطيرة تعترف فعلاً أن الشعب المصري يشم رائحة الديمقراطية للمرة الأولى (إذن ماذا كان أزهى عصور الديمقراطية يفعل طيلة أربع وعشرين سنة؟)، وفي هذه النقطة أقر وأبصم أن مصطفى حسين محق. إنها المواقف التي تحمل في ثناياها هشاشة تغري بالهجوم عليها .. مثل ذلك الكاتب اللوذعى في أخبار اليوم الذي نشر مرثية لمبارك لأنه عاجز عن أكل طواجن البامية والمحشي ... أي حمق هذا ؟!.. لو كنت مكان مبارك لعاقبته بعنف لأن هذا الكلام الساذج يحمل في ثناياه الرد عليه: ونحن نشفق على الرئيس ونريد أن يعود شخصًا عاديًا يأكل البامية!.. وهو ما قيل بالفعل في أكثر من جريدة ..
المشكلة هي أن مدافع (نافارون) انطلقت لتدك معاقل مصطفى حسين .. فجأة صار فنانًا محدود الموهبة لا قيمة له، ولو لم يرتبط اسمه بالعظيم أحمد رجب لظل نسيًا منسيًا .. صار الرجل طاغية يرمز للفساد يكتنز في بطنه العملاق القرى السياحية وأراضي الدولة...
إن تاريخ العثرات الصحفية طويل، ومن العسير ألا تجد كاتبًا تورط في شبهة نفاق أو نفاق صريح أو خطأ لا يغتفر .. لدي مقال - أصر على الاحتفاظ به - نشر في مجلة الهلال عام 1951 للعقاد يمتدح فيه الملك فاروق ويصفه بأنه الشمس التي أشرقت على أرض وادي النيل فأينعت .. عام 1951 هو عام بلغت فيه روح المصريين الحلقوم من الملك الفاسد وهو ذا كاتبنا الشجاع يمتدحه في حماس مريب..
وماذا عن مقال أنيس منصور الشهير الذي يدعو فيه لإباحة البغاء لحل مشاكل الشباب ؟.. وغير هذا كثير ...
ثم تعال هنا .. منذ متى كان ثنائي (رجب / حسين) مناضلاً مدافعًا عن الحريات ؟... عندما صدرت التعليمات من فوق – أيام كامب ديفيد - رسم مصطفى حسين الزعماء العرب يجلسون على قصاري الأطفال، ورسم صدام حسين يقتل ضحاياه بالغازات السامة الخارجة من معدته، ورسم الملك حسين أيام حرب الخليج الثانية يتذوق الحليب من ثدي امرأة حسناء ليتأكد من صلاحيته لأطفال العراق .. وعندما تغيرت التعليمات صارا مدافعين عن الحريات وأكبر منتقدين لرؤساء الوزارات (الوزارة في المغارة) ورسوم مصطفى حسين عن الرزاز وزير المالية الشهير بالجباية تكفي لملء مجلد كبير ..
المهم أن كل هذه اللوحات كانت تحمل العبارة (فكرة أحمد رجب).. وهذا يعني أنهما كانا موظفين لدى الدولة لا أكثر ولا أقل، ولم (ينحرف) مصطفى حسين فجأة لأن الكاتب الكبير تخلى عنه .. ويقال إن هذا الكاريكاتور الذي أغضب المعارضة هو اعتذار من الفنان عن كاريكاتور سابق أظهر فيه مصر امرأة انتفخ بطنها بالديمقراطية وتساءل إن كان هذا حملاً كاذبًا أم لا .
مشكلتنا هي أننا لا نقيم بعضنا البعض بموضوعية .. أتمنى أن نقول: هذا فنان رائع لكنه ساذج سياسيًا .. الكاتب الفلاني عظيم الموهبة لكنه فاسد سياسيًا .. لكننا نحكم على الأمور أيديولوجيًا ومن اللحظة الأولى، ونعيب بعد هذا على خصومنا أنهم يفكرون بالكيفية ذاتها.. إنهم لا يبالون بمفكرين من طراز جلال أمين وفهمي هويدي وعبد العظيم أنيس لأنهم ليسوا من معسكر الحكومة كأن هذا يكفي لجعلهم ضحلين.. ونحن ننزع تاج الشعر عن شاعر لمجرد أنه يحب الكتابة عن عيون حبيبته ولا يكتب عن معاناة البروليتاريا .. تأمل نتائج مسابقات القصة التي يكون المحكمون فيها ذوي ميول يسارية .. فيلم فجر الإسلام جيد ومحكم لكننا نعتبره سقطة من سقطات صلاح أبو سيف لمجرد أننا نختلف معه أيديولوجيًا .. لماذا ملأنا الدنيا صراخًا عندما قال بوش: من ليس معنا هو ضدنا .. بينما نحن نفكر بالطريقة ذاتها طيلة الوقت ..؟
هذا هو بيت الداء .. عندما نختلف نختلف بعنف ونرفض كل شيء وننأى عن الموضوعية .. مصطفى حسين رسام عبقري بلا شك وكان بوسعه أن ينجح مع أو بدون أحمد رجب .. يمكنك أن تتهمه بالنفاق إذا كان يدرك معنى ما نشره، أو بالخرق إذا لم يكن يدرك .. لكن لا تنتزع منه عرش الكاريكاتور المصري المعاصر من فضلك، بعد ما لاقى جاهين ربه واعتزل حجازي العظيم بإرادته .. يمكنك أن تتهمه بفساد الفكر لكن لا تتهمه بانعدام الموهبة أبدًا ..
ومن جديد نتذكر كلمات القرآن الكريم البليغة الموجزة حين دعانا ألا يبعدنا شنآن قوم عن العدل.