رأيته جالسًا في القطار وهي على بعد خطوات .. ليسا معًا لكنهما ينتميان لذات العالم .. نظراته تعسة وقميصه مجعد ولحيته نصف نامية.. يجلس وفي يده مذكرة بخط اليد مصورة تحوي معلومات زراعية.. هذا طبيعي في عصر صار فيه الكتاب عملاً غير أخلاقي. هو إذن طالب في كلية الزراعة ذاهب إلى الامتحان كما هو واضح .. اسمه (عادل).. أعرف هذا يقينًا كما أعرف أن اسمها (رانية).. حرام ألا يكون اسمها رانية .. فتاة العصر التي تلبس حجابًا مزركشًا وجوبًا ضيقة من الجينز وحذاء (كوتشي) والموبايل في يدها، بينما هي تقلب في ملل مماثل صفحات مذكرة مصورة تحوي دروسًا باللغة العبرية .. هي إذن طالبة في الألسن .. واضح تمامًا أن كليهما يشعر بملل قاتل وأن هذه المذكرة تُفتح للمرة الأولى أو الثانية غالبًا ..
نظرات عادل تتوه بعيدًا عن المذكرة .. تسبح .. تجول … تنزلق عينه في نظرة عابرة إلى رانية .. تلتقي العينان فيبعد عينيه خارج النافذة .. يتثاءب .. ينظر للسقف .. يغمض عينيه بعض الوقت ثم يفتح المذكرة من جديد .. إنه في مأزق .. بإذن الله ستكون وقعته سوداء عندما يرسب وعندما يعرف (الحاج) ذلك .. لكن لا وقت حتى للقلق .. لابد من قراءة هذا الهراء في ربع الساعة الباقي على القاهرة ..
نظرت له شاعرًا بالشفقة، وحمدت الله على إنني لست مكانه .. مهما حدث سوف يتخرج (عادل)، وسوف يجد نفسه بلا عمل .. سوف يفكر في رانية أو غادة أو مها .. ربما يعمل في شركة اتصالات لو كانت لديه واسطة .. ربما يأخذ كورسًا في الكمبيوتر أو الإنجليزية أو إدارة الأعمال، لكنه بالتأكيد سوف يستدين كي يأخذ دورة في البرمجة اللغوية العصبية .. تساءلت في مرارة: ما الذي ستقدمه له هذه البرمجة اللغوية العصبية ؟.. فهم الآخرين ؟.. ماذا يفعل فهم الآخرين أمام البطالة وكيف يقهر الواسطة وكيف ؟.. وكيف ؟ .. كيف يساعدك على أن تتزوج رانية ؟.. ربما يوقعها في حبك، لكن ماذا بعد ذلك؟
ومن جديد أشعر أن الموضوع هو بيع الترام بالماستر كارد .. بيع الترام في ورق مصقول لامع .. هذا علم لا يهم إلا خبراء الدعاية، ويحتاج إلى مجتمع مترف .. الحياة سهلة في الخارج . كل ما عليك هو أن تجد وتشقى وتتعذب وتؤثر في الآخرين لكي تنجح !..
قصة نشوء هذا العلم معروفة لكل شاب، وهي تعود إلى العام 1975 عندما قرر العالمان الأمريكيان (جرندر) و(باندلر) بالاشتراك مع (باتيسون) أن يحللا مقادير الخلطة السرية التي تؤدي إلى النجاح، بحيث يمكن لأي شخص أن يستعملها في مطبخه .. أن يضعا قواعد لطريقة التعامل مع البشر، وأن يضعا منهجًا لفهم الآخرين ، وقد اعتمدا على ثلاثة نماذج للنجاح هي للعلماء النفسيين فريتس بيرلز وفرجينيا ساتير وإركسون .. هكذا صارت هناك مجموعة من القواعد الجميلة جدًا التي جرت على الألسن مجرى الأمثال : (الشخص ليس هو السلوك).. (الخارطة ليست هي المنطقة) .. (لا يوجد هناك فشل إنما تجارب وخبرات) .. (وراء كل سلوك نية إيجابية)..(كل الناس لديها وسائل النجاح).. (استعمل ما أنت ناجح فيه في مجالات أنت تفشل فيها )، وهو هرش مخ لو فكرت فيه بأمانة.. نفس جو المأثورات الذي يذكرك بتبشير توماس فريدمان للعولمة : (يجب أن تكون مستعدًا لقتل أسراك).. (لا غداء مجانيًا بعد اليوم).. الخ .
ويبدو أن هذه المقولات رائجة جدا في أمريكا .. خلطة حريفة المذاق من علم النفس والمدرسة السلوكية وفن التخاطب والفراسة وحكمة المرحومة خالتي، مع الكثير جدًا من الأمثلة.. أمثلة لا تنتهي تصيبك بالدوار .. عندك جهاز محمول يمكنك بشيء من الجهد أن تستخدمه في طلب أرقام .. لكن باقي الإمكانيات مجهولة لك لأن الكتالوج ليس معك .. عقلك كذلك جهاز لا تعرف عنه الكثير ويجب أن تقرأ الكتالوج الخاص به .. "ستمدك البرمجة بدليل الإرشادات حول طريقة تشغيل عقلك ويعرفك على عقلك اللاواعى، كما سيوفر لك التقنيات التي تساعدك على التغيير سواء بحياتك أو بحياة الآخرين، وستزودك بالخريطة التي تجعلك تحقق النجاح في الحياة" هناك دائمًا مفهوم الخارطة في هذه البرمجة .. عامة فهمك للعالم هو الخارطة .. العقل والكلمات يتفاعلان مع الخارطة التي هي العالم ..
تعمل البرمجة اللغوية العصبية على أربعة أركان رئيسية هي الحصيلة أو الهدف ( ماذا نريد ؟ ) والحواس والمرونة والمبادرة و العمل (لأنك ما لم تصنع شيئا فإنك لن تحقق شيئًا). يجب أن تفهم البشر الذين تصنفهم البرمجة اللغوية إلى سبعة أنماط ( من يهتم بالناس – ومن يهتم بالنشاطات – ومن يهتم بالأماكن – ومن يهتم بالأشياء – ومن يهتم بالمعلومات – ومن يهتم بالوقت – ومن يهتم بالمال ) أو هم (اللوام – المسترضي – الواقعي – العقلاني – المشتت ) . فاهم حاجة ؟.. بالطبع تفهم لكن هل يفهم عادل ؟ هناك مبدأ إعادة التأطير ومبدأ القولبة .. أن تتخذ نموذجا لشخص ناجح تتبنى معتقداته وتراكيبه اللغوية واستراتيجيته، ثم تكون معتقداتك الخاصة وأنت ما زلت تعتنق معتقدات الشخص السابق .. لو كنت تخاف من الظلام فكل ما عليك هو أن تبرمج عقلك على التفكير كواحد لا يخاف الظلام !..
هكذا نمت البرمجة اللغوية الحركية العصبية الذاتية هذه، وتحولت إلى طريقة لعلاج الاكتئاب والإدمان وعلاج الفوبيا .. صارت نظام تنمية ذاتية يعتمد على الحلقات الدراسية والاستشارات و جلسات العلاج .. تسربت إلى بلادنا العربية وصارت هوجة وموضة لا تنتهي، وهناك مواقع كثيرة تربطها بالإسلام، باعتبار أن الاسلام يحض على البرمجة اللغوية، وأن الأنبياء استخدموا أساليبها بنجاح تام .. طيب لماذا لا تكتفي بالدين إذن ؟ لكن كما قلت في المقال السابق، أعتقد أن أكثر علماء الدين الذين هاجموا البرمجة اللغوية العصبية هاجموها قبل أن يعرفوها جيدًا .. وهذا ليس دفاعًا عنها قدر ما هو دفاع عن مبدأ الدقة، ومن الخطأ أن نتعامل معها كامتداد لليوجا والشامانبة وطاقة التشي ...
على كل حال يبدو أن باتلر لم يتعلم السماحة من طريقته هذه لأنه أراد عام 1996 أن يأخذ الكعكة كلها لنفسه، وطالب بأن تسجل الطريقة باعتبارها ملكية فكرية له وحده .. عندما تقرأ الهجوم على هذه الطريقة تجد أنه من الصعب أن تتوقف .. لابد من كتاب كامل يستعرض هذه الآراء .. يقولون إنه بعد 30 سنة من وجودها ما زالت لم تُقيم علميًا بما يكفي .. لا يوجد لها كيان متكامل من الأساليب العلمية القابلة للتطبيق .. عام 1984 قام عالم اسمه شاربلي بتقييم 15 دراسة حول هذه الظاهرة فوجد أن البحث العلمي لا يؤيد جدواها، ونتائجها غير قابلة للتكرار .. غير قابلية النتائج للتكرار هي الصفة المميزة للعلم الزائف أو هرش المخ عدم المؤاخذة ..
علماء آخرون قالوا بالحرف: "الـ NLP قد جذبت أتباعًا كثيرين بينما هي لا تزيد على خدعة نفسية".. "حتى التقنيات الناجحة نوعًا التي تمارسها البرمجة ليست من اختراعها بل هي من أساليب أخرى سابقة ..لم يعد أحد يذكر البرمجة اللغوية ضمن أساليب العلاج النفسي .."
عالم آخر يقول: "إنها التغيير من أجل التغيير فقط .." يقول ساتام ساسانجيرا عام 2005 إن شعبية الـ NLP ليست دليلا على فعاليتها، بل على قدرة الهراء الخارقة على هزيمة العلم .. إن الـ NLP عجينة نصف مخبوزة من علم النفس الشعبي والعلم الزائف . يقول توني روبينز: البرمجة نفعية جدا .. تضم إلى ترسانتها كل وسيلة تثبت نجاحها حتى لو لم تكن مدعومة علميًا .. لا أحد من مدربي البرمجة قد أجرى أبحاثا حقيقية للبرهنة عليها، طريقة العمل هي: تظاهر بأن الطريقة تعمل .. لاحظ ما تحصل عليه .. لو لم تحصل على نتيجة جرب شيئًا آخر.
عن الاسم الغريب تقول مارجريت سنجر إن باندلر اعترف بأنه اخترع الاسم من مجموعة كتب متناثرة على أرض سيارته عندما سأله رجل شرطة عن عمله ..! على شبكة الإنترنت قرأت لقارئ عربي ذكي يهاجم أحد أنبياء البرمجة اللغوية في الفضائيات، فيسأله: هل قام تلاميذه بإنشاء المراكز الحيوية التي تفيد المجتمع أم قاموا فقط بإنشاء مراكز التدريب لنفس المجال وفي نفس الاتجاه ؟ !! هذه هي الحقيقة .. الطريقة الوحيدة للاستفادة من الـ NPL هي أن تصير مدربًا لها، وأن تؤلف عنها كتابين، وأن تنشئ مركزًا يعلمها .. الذين فعلوا ذلك هم الذين ظفروا بالخير العميم ..
ترى هل يفهم عادل هذا ؟.. هل يمكنه أن يفتتح مركزًا لتعليم البرمجة اللغوية العصبية كمشروع عمره الذي يدر الذهب، ويخرس المتحذلقين من أمثالي ؟.. لا أعتقد .. لقد وصل القطار إلى المحطة، وابتعدت (رانية) بخطوات رشيقة لتلحق بالمترو، فلم يعد لدى عادل وقت لسماع أي شيء سوى صياح مراقب اللجنة لأنه يحاول الغش