قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, March 19, 2012

خواطر قلاعية



صديقى كان من المولعين بالرياضة البدنية، لذا كان يذهب للتدريب فى نادى السكة الحديد بطنطا.. علام يتدرب فى نادى السكة الحديد؟ على رفع الحديد طبعا.. ظننت هذا واضحا. وكان يذهب هناك يوميا ثم يخرج ليجد تلك المرأة التى تجلس خلف قفص مقلوب، تبيع شطائر اللحم المتراصة عليه.. يؤكد لى أن الشطيرة كانت توشك على الانفجار بما فيها من لحم وثمنها -عام 1981- هو قرشان! لا تتحدث عن التضخم هنا، فمبلغ قرشين كان تافها جدا حتى فى ذلك الوقت.. كان يبتاع شطيرتين يأكلهما بعد التدريب لتعويض ما فقده من بروتين، ثم يعود إلى البيت سعيدا

مر عامان على هذا الروتين المحبب، ثم كان ذات يوم يمشى عند ترعة القاصد، عندما وجد نفس المرأة وزوجها وقد انتشلا جثة حمار ميت من الترعة وراحا (يشفيّان) منها اللحم! إذن نحن لا نتكلم عن لحم حمير بل عن لحم حمير نافقة!ـ

رغم هذا، يقول صديقى إنه ليس نادما على شىء، وإنه يعرف أننا نأكل أسوأ من هذا مرارا دون أن ندرى.. على الأقل هو قضى عامين ينعم بشطائر محشوة باللحم بثمن زهيد! توفى هذا الصديق فى ما بعد إلى رحمة الله لكن -صدقنى- لم يكن اللحم هو السبب

لسبب ما تذكرت هذه القصة يوم الثلاثاء الشهير الذى توقف فيه المرور فى طنطا تماما.. تحولت طنطا إلى موقف كبير لا تتحرك فيه أى سيارة، وعرفنا أن السبب هو الفلاحون الذين توفيت مواشيهم بالحمى القلاعية. لقد ضربت الحمى القلاعية طنطا بعنف، وقيل إن العدد تجاوز 8000 رأس. بالذات فى قريتى أبشواى الملق بمركز قطور وميت غزال بمركز السنطة

حمل الفلاحون جثث مواشيهم وألقوها فى شارع البحر أمام المحافظة، طالبين التعويضات.. شارع البحر هو الشريان الوحيد المتدفق فى طنطا، ومعنى أن يتوقف هو موت البلدة تماما.. ثقافة الاحتجاج فى مصر -إن كانت له ثقافة- تتلخص فى عبارة واحدة: اقطع الطريق على أولاد الـ…!ـ

كان الموقف مريعا والحادث مفجعا، لكنى تساءلت فى قلق عن مصير جثث هذه الحيوانات النافقة. ما كنت لأقلق لو كنت فى أى بلد آخر، لكن خبرتنا طيلة أعوام (البؤس – الجشع) مع مبارك، علمتنا أن هذه الجثث لن تدفن أو تحرق ببساطة.. هناك أكثر من جيب سيمتلئ بالمال فى الأيام القادمة.. أما عن صحتنا معشر المستهلكين فلا أعتقد أن التهام لحم الحمير الميتة لمدة عامين قد آذى صديقى كثيرا.. ولم يخب ظنى طويلا بعد ضبط جزار فى المحلة يبيع اللحوم النافقة بـ32 جنيها للكيلو.. هذا مواطنى الحبيب يصنع ما توقعته منه بالضبط

لاحظ أننى قلق بسبب احتمال التهام حيوانات نافقة، أما الحمى القلاعية نفسها فمن الممكن اتقاء خطرها ما دمت ستطهو اللحم جيدا، ويا سلام لو استغنيت عن أجزاء معينة، مثل القلب والكبد والنخاع والمخ.. لكن الناس لا تعرف ذلك على كل حال، ولن تطمئن لشراء اللحم لفترة طويلة

هكذا مررت على الجزارين لأجد على وجوههم لوحة بليغة اسمها (الكساد). الكل يجلس واضعا يده على خده وهو يدخن الشيشة وينتظر الفرج.. لا أحمل نحوهم أى تعاطف، فلطالما امتصوا دماءنا من قبل، وقد فشلنا نحن فى تنظيم أى مقاطعة للحوم تقلل من سعرها قليلا.. الآن جاءت المقاطعة لأسباب ربانية، لكنى بالتأكيد مشفق بشدة على الفلاح نفسه.. الفلاح الذى لا يملك مصدر رزق سوى البقرة أو الجاموسة.. من كان من الريف يعرف جيدا أن البقرة تعنى للفلاح ما هو أكبر بكثير من قيمتها الاقتصادية. إنها تعنى الخير والرزق والستر والاطمئنان للغد، وفقدها كارثة كونية بالنسبة إلى الفلاح

حمى القلاع مرض قديم يعرفه الفلاح المصرى جيدا.. ليس جديدا والله العظيم. ولقد حضرت ندوة بديعة عنه منذ ستة أعوام عندما انتشر فى مصر وقتها، وكان الخبر اليقين لدى مجموعة ممتازة من أساتذة كلية الزراعة الذين أخبرونا بالكثير مما لم نكن نعرفه من قبل. اسم القلاع يتعلق بالشقوق التى تحيط بفم البهيمة كأنها الطين الجاف المتشقق.. هذا هو الاسم العربى، أما الاسم الغربى فمعناه داء الفم والحافر
HMD
هنا يوجد خلط مع مرض يصيب البشر اسمه (مرض اليد والقدم والفم)، وهو مرض يسببه فيروس كوكزاكى.. هذا الخلط هو ما يشيع الوهم الشهير أن مرض المواشى يصيب البشر. سمعت أستاذا فى الأمراض المعدية يقع فى ذات الخطأ ويحسب أن حمى القلاع ناجمة عن فيروس كوكزاكى

إن حمى القلاع التى تصيب الماشية تنجم عن فيروس آخر اسمه بيكورنا.. ومن أنواع هذا الفيروس «سات 1» و«سات 2» و«سات 3»، التى صرنا نقرأ أسماءها فى كل الصحف. وتنتقل العدوى بالهواء ورذاذ العطس واللعاب واللبن وإفرازات الحيوانات المريضة. عندما تصيب الحمى الماشية تسبب تلك الحويصلات المؤلمة فى الفم والحوافر والضرع والمهبل ومنبت القرون.. بعد فترة تنفجر الحويصلات وتتلوث ويصير التهام الطعام مستحيلا على الماشية.. الفلاح المصرى تعلم أنه يعنى بالحيوان وينظف هذه القروح ويدهنها بالعسل، فإذا مرت الفترة الحرجة استعاد الحيوان صحته وعاد للأكل. لكن المرض خطر فعلا مع العجول، حيث يصل معدل الوفيات من 50 إلى 70%، لأن الفيروس يهاجم عضلة قلبها… كارثة اقتصادية بالمعنى الحرفى.. هذا طوفان تسونامى مرعب، لأن ثمن رأس الماشية 20 ألفا، بينما العجل ثمنه خمسة آلاف. أبشواى الملق تتوقع كذلك كارثة بيئية بسبب الجثث الملقاة فى المصارف

الفلاحون يؤمنون أن الأطباء البيطريين لصوص ويقومون بسرقة اللقاح لبيعه لمن يدفع. فى الحقيقة هذا غير صحيح رغم أنه تفسير مغر.. الفكرة هنا هى نفس مشكلة الإنفلونزا وفيروس سى.. إن الفيروسات تغير نفسها بلا توقف، لهذا تصير لقاحات الأمس بلا جدوى اليوم وغدا.. لقد ظهرت سلالة جديدة غير معتادة هى «سات 2» كما أكد معهد بحوث صحة الحيوان المصرى، ولكن هذا الخبر لن يتأكد إلا لدى وصول العينات إلى لندن بعد أيام!.. عندما صور محمد كريم أول مشهد ملون فى السينما المصرية (أغنية عمرى ما حانسى يوم الاتنين فى فيلم «لست ملاكا»)، كان يرسل الأفلام يوميا إلى معامل دنهام فى لندن للتحميض.. وذلك على متن أى طائرة ذاهبة إلى لندن اليوم. لم أعرف أن الحياة ازدادت تعقيدا بهذا الشكل، بحيث صار على وباء بهذا الحجم أن ينتظر أسبوعا

هناك من اتهم الفلول بأنهم استوردوا أبقارا مريضة من إثيوبيا، وهى التى نشرت المرض.. على قدر علمى هذا أول اتهام للفلول بأنهم يمارسون الحرب البيولوجية

سوف تمر هذه الغمة وينحسر الوباء مع ارتفاع حرارة الجو، رغم أنه فى ذروته الآن (ذكرت الصحف أن المعدل خمسة آلاف رأس يوميا، وعلى فكرة هناك تضارب أرقام مروع.. فكل صحيفة لها أرقامها). طبعا سوف تطير رؤوس أطباء بيطريين كثيرين أبرياء ومهملين، لأن نار الغضب تطالب بقرابين بشرية. لا بد من السيطرة على حالة الذعر التى أصابت الناس لاقتناعهم بأن المرض ينتقل إلى البشر.. يجب أن يتم تعويض هؤلاء البؤساء الذين فقدوا الضمان الوحيد للغد، ويجب التأكد من أن المواشى النافقة لن تجد طريقها إلى الجزارين كما هو متوقع.. وحتى ذلك الحين لا تشتر لحما.. ليس الذعر هو السبب، ولكن لأنها فرصة ربانية للمقاطعة.. وبالطبع لا تلتهم أى شطيرة لحم مليئة ثمنها قرشان!ـ