فتنة كبرى هى تلك التى نعيشها هذه الأيام.. فتنة جديرة بأن تُدرس فى كتب التاريخ للأجيال القادمة ويُطلق عليها اسم رنّان؛ على غرار (فتنة الشرعية) أو (فتنة مرسى والجيش). فلا ننكر أن المجتمع المصرى قد صار منقسمًا بالكامل، وأعرف خلافات عائلية حامية بسبب أن أحد الزوجين يؤيد مرسى والآخر ضده. أما عن الحياد فحدث ولا حرج.. أى واحد يعرض الرأى والرأى الآخر يتلقى اللعنات. يجب أن تعرض رأيًا واحدًا فقط هو رأى القارئ. الويل لك إن لم تتطرف
لا أعرف حقيقة ما حدث عند الحرس الجمهوري، فالقصة ضبابية يحكيها كل طرف بطريقته، وعلى المرء أن ينتظر نتيجة التحقيقات.. لكن هناك أطرافًا اتخذت قرارها وحاكمتْ وأصدرت الحكم بين:ـ
أ - أفراد مسلحين حاولوا اقتحام موقع عسكرى فلم يكن ممكنًا التعامل معهم بأى طريقة سوى إطلاق الرصاص، ولربما حركهم من يريد بحرًا من دم يجذب انتباه العالم
ب - وبين مذبحة قام بها الجيش بأعصاب باردة، لا تختلف عن مذبحة الحرم الإبراهيمى كثيرًا
نحن نذكر أن هذا الجدل دار أيام محمد محمود وأيام العباسية.. بل إن ناشطة وكاتبة شهيرة كتبت أيام أحداث العباسية أن رجال الجيش اقتحموا المسجد وذبحوا من فيه ذبح الشياه (وهو ما لم يثبت قط). وقتها ألصقوا بالجيش كل نقيصة
المشكلة هنا إن حالة التعصب الشديدة التى تجتاح المجتمع تجعل الناس اليوم إما مستعدين لشيطنة الجيش وتحويل ما قام به إلى دنشواى جديدة على نطاق واسع، أو تجاهل ما حدث تمامًا باعتبار من ماتوا من الإخوان، فمن الخير أن ينقرضوا
هل تنكر لحظة أن تعامل الإعلاميين والمثقفين مع الحدث ومع الخمسين قتيلاً يختلف تمامًا عن تعاملهم مع من ماتوا فى محمد محمود وسواه؟.. وهذا بالطبع يتفق مع ما حذرت منه من الإبادة العرقية للإخوان بشكل منهجي، ولا أعنى بهذا هؤلاء الخمسين، فنحن لا نعرف التفاصيل بعد، ولكن أتحدث عن جو الشماتة والتعصب المجنون الذى يجتاح الناس مع لمسة سادية لا شك فيها. وأنت تعرف أن الإخوان (سيلبسون) تهمة مذبحة استاد بورسعيد وموقعة الجمل وربما قتل خالد سعيد كذلك.. المجد لتوفيق عكاشة فعلاً فهو رمز المرحلة
هل تعرف أحمد سمير عاصم؟.. ثمة احتمال لا بأس به أنك لم تسمع عنه قط، وهنا يكمن الخلل الواضح. عندما حدث الانقلاب العسكرى على سلفادور اللندى فى شيلي، كان هناك فيلم شهير جدًا لمصور أخبار يلاحق الأحداث بالكاميرا.. ظهر فى الكادر جندى يشير للمصور كى يبتعد، فهو بالطبع لا يريد شهودًا، لكن المصور ظل يتابع بعناد.. رفع الجندى بندقيته وأطلق وابل رصاص باتجاهنا.. الكادر يهتز.. الكاميرا مقلوبة تصور حجارة الطريق، ثم يهرع أحد أصدقاء المصور ليخطف الكاميرا. هذا الفيلم فاز وقتها فى أكثر من مهرجان للفيلم التسجيلى أو الفيلم السياسي، ونال اسم المصور حشدًا من الأوسمة. قارن هذا بما حدث فى مصرنا منذ أيام. لقد كتبت التليجراف اللندنية تقول:ـ
ـ«المصور يلتقط لحظة وفاته الخاصة. الفيلم الحُبيبى قد أظهر الجندى وهو يصوب من موقع المراقبة على قمة بناية حجرية صفراء اللون. أطلق أكثر من مرة ثم أدار بندقيته وصوب نحو عدسة الكاميرا. هنا ينتهى الفيلم ومعه تنتهى حياة أحمد سمير عاصم. المصور ذو الـ 26 عامًا الذى يعمل فى جريدة الحرية والعدالة كان بين الـ 51 شخصًا الذين قتلوا عندما فتحت عليهم قوات الأمن النار خارج نادى الحرس الجمهورى فى القاهرة، حيث يعتقد أن الرئيس المعزول محمد مرسى محتجز. كان عاصم موجودًا عندما كان المحتجون من الإخوان المسلمين يؤدون الصلاة فجر الاثنين. حسب أقاربه، فإن لحظة وفاته قد تم تسجيلها. انتشرت أنباء مصرعه عندما وجدوا الكاميرا الملوثة بالدم وهاتفه المحمول فى موقع المعسكر. قال أحمد أبو زيد المحرر الثقافى لجريدة عاصم: فى السادسة صباحًا جاءنا رجل بكاميرا ملوثة بالدم. وبعد ساعة جاءت أخبار أن (أحمد) قتله قناص وهو يصور من قمة بناية حول مشهد الواقعة. لقد صور أحمد كل شيء من البداية وسوف تظل صوره دليلاً على ما حدث
شريط الفيديو الذى صوره أحمد موجود على صفحته فى فيس بوك، برغم أننا غير قادرين على تأكيد أصالة الفيلم. قال مؤيدو مرسى إن النيران أطلقت عليهم من الخلف بلا استفزاز وهم يصلون. يصر الجيش على ان القوات أطلقت الرصاص عندما حاول المحتجون اقتحام الحرس الجمهورى. هناك من يلقى تهمة إطلاق النار على أطراف تبتغى التهييج. الإخوان المسلمون مصممون على استعمال الفيلم كدليل برغم أنهم رفضوا أن يعطوا نسخة منه
وصف الزملاء (عاصم) خريج جامعة القاهرة بأنه محترف مخلص لمهنته، جمع أكثر من عشرة آلاف لقطة منذ بدأ عمله كمصور منذ ثلاث سنوات. وعمله فى جريدة الحرية والعدالة جعله دائمًا فى صفوف الاضطرابات الأولي، وهذا أيضًا سبب خلافاته مع أسرته ذات الميول الناصرية»ـ
عاصم من أسرة ناصرية إذن.. لقد شتمنى الإخوان مرارًا بسبب ناصريتي، لدرجة أن أحدهم كتب لى بالحرف بعد مقال امتدحت فيه عبد الناصر: «ليتك مت يا أخى يوم وعكتك الصحية لنرتاح منك»، ومن يتابع كتاباتى منذ زمن يعرف أننى لا أحمل ميلاً للإخوان ولست من اللجان الإلكترونية التى تزعم هذا، لكن هل معنى هذا أن أصمت وأن أتجاهل موت عاصم؟ بل ربما كان على أن أهلل لموته كذلك؟.. هذا صحفى لا يحمل سوى كاميرا فى يده تم قتله، يضاف إلى قائمة الصحفيين الذين استشهدوا أثناء أداء عملهم، وبرغم هذا فلن يتكلم عنه أحد ولن يرثيه أحد
ما زالت القصة غامضة على كل حال.. على من يتبنى حكاية ذبح الجيش للمعتصمين أن يفسر لماذا لم يسمع شهود العيان الساكنون جوار موقع الحادث أى طلقات إلا بعد صلاة الفجر بساعة؟. بل لماذا سمعوا تبادل طلقات أصلاً؟.. المفترض أن هناك طرفًا أعزل. على الجانب الآخر على من يتبنى حكاية المعتصمين المسلحين الذين حاولوا اقتحام موقع سيادى أن يفسر لنا جثث السيدات. هل كانت السيدات يحملن مدافع آر بى جي؟ وماذا عن شهادة نقابة الأطباء؟
شيء واحد مؤكد.. سقوط 51 قتيلاً شيء لا يمكن وصفه. والأسوأ أن تجد هذه اللامبالاة لدى الإعلام أو ربما الشماتة.. تقرأ لكتاب ليبراليين ملئوا الدنيا صراخًا على ضحايا محمد محمود ومجلس الوزراء وماسبيرو، فتجدهم لا يبالون بالحادث أو يقولون ما معناه: يستاهلوا. لقد انقلب موقف الجميع 180 درجة وابتلعوا معتقداتهم السابقة. حاليًا كل طرف يقول: «قتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار» على طريقته. قرأت تعليقات البعض على لقطات الأخ السادى المتوحش الذى ألقى بفتية من فوق خزان ماء بالأسكندرية، فوجدت كل أنواع الشتائم والعصبية والتلفيق... قالوا: ليس هو الذى ألقى بالفتية.. هذه اللحية صناعية.. هؤلاء ليسوا أطفالاً. باعتبار أن من حق المرء الكامل إلقاء الشباب من فوق خزانات الماء إلى الشارع ما داموا تجاوزوا السن القانونية.. وحتى بعد ما اعترف الفاعل قالوا إنه ممثل
ماذا يحدث؟.. ماذا جرى لنا؟
أين ثورة يناير العظيمة؟.. وأين الـ 18 يومًا التى عصرت من كروم الخيال؟.. يبدو أن ثورة يناير كانت تحتاج إلى شعب قادر على العدل، وعلى أن ينبذ خلافاته ليتحرك.. شعب يدرك أن الوطن أكبر من تعصب لفريق كرة، أو خناقة بين فتوات حيين شعبيين