ليلة السكاكين الطويلة اسم يعرفه الغربيون جيدا، ويتعلق بعملية تطهير جذرية قامت بها النازية فى ألمانيا فى 30 يونيو عام 1934. هكذا انطلقت فرق القتل لتغتال كل اليساريين وكل من لم يتحمسوا للنازية أو ينضموا للحزب، وبالطبع اليهود. فى ليلة واحدة مات 85 معارضا لهتلر.. أو هذا هو العدد الذى تم حصره رسميا...
كانت القوات التى تقتل هى قوات الصاعقة SS أو الجستابو.. لكن انضم لهم عدد كبير من المواطنين الذين أعماهم التعصب والاعتقاد أنهم يحمون ألمانيا. وكانت كلمة السر هى (الطائر الطنان) التى كانت تستعمل لنقل الأوامر للقوات. أعد هملر ملفات ملفقة تثبت أن المعارضين قد تلقوا رشوة تقدر بملايين الماركات من فرنسا لتخريب النظام النازى. وحدد هملر قوائم بالشخصيات التى يجب قتلها. وفى الرابعة والنصف من صباح اليوم المختار عام 1934 بدأت العملية. عشرات المعارضين وجدوهم فى الغابات مذبوحين أو تم تهشيم رءوسهم بالفئوس، وكانوا يشنقون كل من يختلف معهم بأسلاك البيانو، ويعلقونهم إلى أعمدة النور فى الشوارع. لقد كان التطهير قاسيا وبلا رحمة. على أن النازيين أكدوا كذا مرة أن هذه كانت إجراءات أمنية طبيعية، وتكفلت دعاية جوبلز بجعل هذه الليلة أفضل شيء حدث لألمانيا.
بعد هذا تم حرق كل المستندات التى تذكر تفاصيل أحداث الليلة أو تذكر أسماء القتلى. لقد تم محو تلك الأيام تماما فلم تعد للسطح إلا بعد عشر سنوات أو أكثر مع محاكمات نورمبرج التى أطارت عددا لا بأس به من رءوس النازية.. عرف الألمانيون متأخرا جدا أنهم كانوا حمقى وأن الكراهية أسكرتهم.
هناك ليلة سوداء أخرى فى تاريخ ألمانيا النازية هى ليلة الزجاج المكسور (كريشتالناخت). وقعت فى 9 نوفمبر عام 1938. فى هذه الليلة تم حشد المواطنين نفسيا وإعلاميا بحيث انطلقوا فى الشوارع يهشمون محلات اليهود ويذبحونهم.. وتناثر الزجاج فى كل مكان مما منح تلك الليلة اسمها. فى تلك الليلة مات 91 يهوديا وتم أسر نحو 30 ألفا.
هذا مدخل جيد للكلام عن وقف برنامج باسم يوسف.
الأمر لا يتعلق ببرنامج تلفزيونى. نحن فى زمن فتنة، والجثث تتساقط فى الشوارع سواء كانت جثث متظاهرات شابات أو معتصمين، أو طفلة مسيحية تلقت 12 رصاصة لأنها جرؤت على حضور زفاف. يصعب أن يحزن المرء جدا بسبب وقف برنامج تلفزيونى ساخر، لكن المشكلة هى أن وقف هذا البرنامج يدل على المعضلة الأخلاقية والورطة التى نحن فيها. عندما يصاب المريض بالحمى ترتفع درجة حرارته، هنا يقلق الطبيب.. ليس بسبب ارتفاع الحرارة.. فلترتفع يا أخى.. المشكلة أن هذا الارتفاع يدل على مرض يتغلغل فى أحشاء المريض، ولهذا يقلق الطبيب. وقف برنامج ساخر بسيط كهذا يدل على مرض خطير يسرى فى أوصال مصر..
اختلفت كثيرا مع برنامج باسم يوسف من قبل، لكنى فى كل مرة كنت أقول إنها سخرية مثقفة لا تجعل الدم ينزف، وكتبت عنه منذ عام: «بينما توفيق عكاشة مضحك دون أن يقصد هذا، فإن باسم يوسف يعرف جيدا ما يفعله ومعه فريق معدين فى غاية الخبث والذكاء، مع براعة شديدة فى مونتاج الفيديو وانتخاب لقطات بعينها. باسم ظريف فعلا وله كاريزما خاصة، مع الخلفية الثقافية التى لابد أن تتوقعها من أستاذ جراحة قلب وصدر. كان باسم من أجمل ما منحته لنا الثورة وصار صوتا يقول كل ما كنا نريد قوله ولا نعرف كيف، أو لا نجد الكلمات المناسبة. يمسك بمبضع حاد يمزق ويكشف ويفضح فيدرك الجميع مدى السخف والبلاهة. لا شك أن الدليل على جدية ما يقدمه باسم هو كراهية خصومه له، وهناك من وعده بأمطار تسقط فوقه، ومن هدده علنا بالاغتصاب لأنه أجمل من ليلى علوى.. إلخ». وقلت كذلك: «لست موافقا على كل ما يقوله.. هناك هامش اختلاف لا بأس به. لكن على من يبتغى الرد أن يصنع برنامجا آخر له نفس البريق وان يجد شخصية لها ذات الكاريزما».
لقد صنع البرنامج بإتقان لذا يشاهده الجميع حتى كارهيه. فقط أخذت عليه منذ عام كامل كثرة الإيحاءات الجنسية المشينة ورأيت أنه سيكون من دونها أفضل. برغم هذا قارن برنامج باسم ببرامج توفيق عكاشة.. أو قارنه بذلك البكابورت المفتوح الذى يحضرونه ليسكبوه فوق ضيوف الفضائيات ليتسلى الناس، وليقذف كل خصومه فى شرفهم ويشتم أمهاتهم.. أو قارنه بالكلب المسعور الذى يطلقونه على الناس فى برامج فضائيات أخرى.
رفعت ثورة يناير سقف الحرية لدى الناس.. وقد أخطأ باسم يوسف عندما أخذ هذا السقف العالى كحقيقة مسلم بها، لذا عندما حاول أن يتكلم عن واحد آخر غير مرسى فى 5% من وقت الحلقة نال ألعن جزاء، وبسهولة ألحقوه بالبرادعى على سبيل رأس الذئب الطائر. وقد أدركنا من هذا أن هناك سلطة جديدة غاشمة اسمها الفضائيات. وهذه الفضائيات لا تقبل المزاح أو الخروج بمقدار ملليمتر عن سياستها المرسومة. فإذا تذكرنا إن باسم يوسف شخصية دولية مهمة وكُرّم فى الخارج، لأدركنا أننا نمر بحقبة جديدة من عدم المبالاة بأحد على الإطلاق... لا يهم رأى العالم فينا.. احنا كده بأه واللى مش عاجبه..
تصرف ضيق الأفق غير مدروس فعلا. ما الخطر الداهم الذى سيصيب الدولة لو تركت البرنامج يستمر، بدلا من الاعتراف صراحة أن الكلمة تخيف، وأن هامش الحرية يضيق جدا عن أيام مبارك؟. دعك من التوحش العام الذى أصاب كثيرين، وسياسة: «أنت لست متوحشا مثلنا. إذن أنت ضدنا وماسونى وطابور خامس»... لهذا طالبوا برقبة باسم يوسف على الفور، وانهمرت القضايا والشكاوى والاتهامات، وتطوع الجميع للعب دور حماة الوطنية، وكل محام أراد شهرة لمكتبه رفع قضية. وقال خبير استراتيجى بعد البرنامج بنصف ساعة إن هناك حالة تذمر فى الجيش بسبب الحلقة. هل أجرى استطلاع رأى بهذه السرعة؟. تذكرت على الفور ذلك المحامى الذى طلب مقاضاة إبراهيم عيسى أيام مبارك، لأن عيسى قال إن مبارك مريض، وهذا جعل المحامى قلقا عاجزا عن النوم والعمل !!!! بذمتك ألا تتذكر نفس الجو؟
لكن الجميع لم يطالبوا برأس باسم كما توقعت أنا. قرأت إدانة لوقف البرنامج من حركة تمرد، وأبدى الإعلامى محمود سعد امتعاضه من الخبر وأذاعه فى برنامجه، وقال د. محمد أبو الغار إن هذا تصرف غير مقبول ينذر بانكماش الحريات، وكذا انتقد البرادعى ما حدث بكلمات قاسية. حسام الدين على أمين عام مساعد حزب المؤتمر قال إن هذا تصرف مشين يضيع مكتسبات ثورة يناير، وإن قناة سى بى سى قدمت هدية لكل الأنظمة الشمولية. د. جابر نصار رئيس جامعة القاهرة وعضو لجنة الخمسين وصف ما حدث لباسم بضيق الأفق، وطالب بمراجعة فكرة امتلاك رجال الأعمال لوسائل الإعلام.
هذه علامة طيبة.. لقد بدأت أطراف كثيرة تدرك خطورة ما ننزلق له. يقول البعض إن هذه كلها تمثيلية يراد منها أن يعود باسم بلمسة كريمة من الحكومة، وبصراحة لا أصدق.. وزهقت من موضوع أن كل شيء مؤامرة مدبرة هذا. ومن جديد ليست القضية دفاعَا عن برنامج تلفزيونى، فنحن لا نملك هذا الترف حاليا، لكنها قضية مجتمع بأسره يوشك على أن يعيش ليلة السكاكين الطويلة أو ليلة الزجاج المكسور