مشاهد القتل فى غزة تحطم الأعصاب فعلاً. فى بعض اللحظات يخيل للمرء أن هذا كله غير حقيقى وأنها لقطات أخذت من فيلم رعب معوي مبالغ فيه مثل (المنشار)، ثم تفطن إلى أن هذا هو الواقع المرير، وأن هذه الدماء ليست عصير طماطم. عملية إعدام جماعى كاملة فى خزاعة.. لقد أدخلوا المدنيين إلى دورة المياه وأعدموهم، والكاميرا تنتقل بين الجثث المتعفنة المتحللة حتى توشك الرائحة على الخروج من الشاشة. مجزرة فى رفح تزعم إسرائيل أنها بسبب خرق وقف إطلاق النار من حماس كأن الحقيقة يمكن تبينها وسط كل هذا الدخان.. مجزرة حى الشجاعية.. ترى بأم عينك كيف تنفجر سيارات الإسعاف وكيف يخرجون الرضع من تحت الأنقاض، ومن ينج منهم يمت بقنبلة تهوي فوق المستشفى. مندوب الأونروا يفقد تماسكه أمام الكاميرا وهو يصف المجزرة التى حدثت فى مدرسة أطفال.. من ثم يبكى كطفل هو نفسه.
إسرائيل تخرق النسبة المعتادة فى حروبها: 20 عربيًا مقابل كل جندى إسرائيلى. كل هذا يدور على حدودنا، وكما قلنا فإن الذئب المسعور يعض ويمزق واللعاب يتطاير من شدقيه.. سوف يحدث الكثير جدًا من الدمار والخراب قبل أن يدرك أنه لا جدوى، وأن الحروب غير المتوازية لا يمكن الفوز فيها أبدًا.
لا أحد يطالب بتجييش الجيوش أو التدخل العسكرى، كما أن الحلول الدبلوماسية القوية غائبة مع الظروف الحالية، لكننا نطالب بالغضب فقط.. العالم كله يدرك فداحة وبشاعة ما يدور فى غزة، بينما نحن العرب بدأنا بأن اعتدنا.. ثم تطور هذا إلى السلبية التامة.. ثم التجاهل.. ثم إدانة الضحية بوضوح وكلمات قوية شجاعة، على طريقة إدانة المغتصبة (هى إيه اللى وداها هناك؟). لم نكن راضين عن عصر الشجب قديمًا، عندما كانت الحكومات العربية تكتفى به ولا تفعل أى شيء.. الآن من يعيد لنا عصر الشجب الجميل هذا؟. يبدو أننا كنا فى نعمة كبرى أيام ممتاز القط وسمير رجب مقارنة بما وصلنا له على صعيد الفضائيات والصحافة المكتوبة اليوم، وهو ما يثبت أن هناك وضعًا أكثر سوءًا فى كل الحالات، والقاع ما زال بعيدًا. ذات ما كان يحدث عندما اعتبرنا عدوية هو قاع الانهيار فى الغناء ونهاية العالم، ثم جاء حمدي باتشان و(ورد الجناين ده) وحسبنا أنها النهاية الجديدة، فجاء من يتحدث عن الشبشب الذى ضاع مع أنه كان بصباع.. هنا تكتشف أن عدوية كان راقيًَا قادمًا من عوالم موتسارت وبيتهوفن.
لم نعد نطلب سوى الشجب، فإن لم يكن فليكفوا عن اتهام الفلسطينيين والشماتة فيهم. أى أننا نطلب منهم الصمت لا أكثر.
رأينا العجب العجاب من إعلامنا، وكما قلت: هذه كائنات تلقت كالصراصير الموجة الأولى من الانفجار النووي واستطاعت أن تظل حية، ثم خرجت تعبث بشواربها وعادت تمارس الكذب والنفاق والتدليس كما كانت قبل الثورة، بدءًا بالمذيعة التى تهلل كلما تلقت غزة المزيد من القصف، والكاتبة التى تقول إنها لا تعترف بالقضية الفلسطينية أصلاً..
بعد هذا رأينا ذلك (الإعلامي) الذى يلعب دور عبيط القرية ينزع حذاءه على طريقة خروشوف، ويضعه أمامه مهددًا بضرب كل من يتكلم مدافعًا عن غزة.. ثم هاجم السيسى إذا أرسل مساعدات لغزة، وهو ما بدا شجاعة للبعض، بينما هو نفاق على طريقة (ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم.. بهن فلول من قراع الكتاب)..
الحقيقة أن هذا المذيع يمتاز بدرجة هائلة مما يسمونه (لؤم الفلاحين)، وقبل أن ترى فى كلامي تعاليًا فأنا أؤكد لك أننى فلاح مثله وأكثر، لكنني لست لئيمًا. الرجل يتظرف و(يستهبل).. فإذا صرت أنت تحت رحمته صار قاسيًا مفترسًا، وكم من مرة أهان المصور أو المخرج على الهواء، وكم من مرة طرد مذيعة لأن كلامها لا يعجبه.. عن طريق هذا اللؤم وهذا الخليط العجيب من البارانويا والنظريات المخبولة الوهمية، وعن طريق الزن على الآذان أربعًا وعشرين ساعة يوميًا فى قناة هو مذيعها وضيفها وخبيرها الاستراتيجى وصاحب مداخلاتها التليفونية، وهو ملقن المذيعات فيها عن طريق سماعة الأذن. استطاع بهذه الطريقة أن يتسرب إلى عقل المصريين ليغير طريقة تفكيرهم وقناعاتهم لمدة خمسين عامًا قادمة.
هناك مذيعة تطوعت بإهانة المغرب واتهامه بأن الدعارة مورد رزقه الرئيس، وكم من مرة تلقى حكام قطر إهانات شنيعة يعاقب عليها القانون من هذه الراقصة أو ذاك المذيع.. يمكنك دائمًا أن تختلف معهم بلا قلة أدب أو فحش. هل تذكر مباراة الجزائر وكيف بذل المذيعون أقصى جهد كى يوقعوا الشقاق بين شعبين، ويحيلوا الموضوع إلى حرب لمجرد إرضاء ابنى الحاكم؟.. وهو شقاق لم يلتئم بعد، والدليل بعض المصريين الذين جلسوا حولى فى المقهى، يهتفون مشجعين ألمانيا ضد الجزائر أثناء كأس العالم 2014... الخلاف صار مع الشعب الجزائرى نفسه وليس حكامه ّإذن...
هكذا تكتشف أن هؤلاء الإعلاميين مجموعة من المنتفعين ذوي المصالح القريبة الضيقة، ولهذا يضحون بأى شيء مهما كان جليلاً أو محترمًا أو مقدسًا.. ويفسدون علاقات مصر مع أشقائنا العرب تاركين بذور شقاق لا يلتئم. دعك من النغمة النازية الإقصائية التى وصفها الأستاذ فهمي هويدي بعبارة (لا كرامة لمخالف). حتى ملامحهم نفسها تغيرت فلم تعد ملامح بشرية.
لا أعرف متى سيسقط هؤلاء ولا كيف يتلقون عقابهم، لكن ليثقوا أن أحدًا لن يدافع عنهم أو يشفق عليهم وقتها. وبنفس منطقهم.. ألم يقولوا إن هذه حرب لا مجال فيها للرحمة، ولا الحديث الرقيع عن حقوق الإنسان أو الكلام المائع عن حرية الإعلام؟.. سوف أستعمل نفس كلماتهم العنصرية وقتها مطالبًا بأن يتلقوا أقسى عقاب على كل التخريب الذى أحدثوه فى ضمير وعقل أمة. هذه أقلام تستحق أن تُقصف وألسنة تستأهل أن تُقطع.
ملاحظة لا علاقة لها بالمقال: فى كل يوم يظهر حساب جديد على فيس بوك يحمل اسمي، وهذا شيء مشرف وجميل وأشكر القارئ عليه كثيرًا، لكن المشكلة هى أنهم يردون باسمى. أى أن القارئ يفترض أننى من أرد عليه، وهكذا يمكن أن يوضع على لساني أي شىء، بينما المفترض أن يردوا باسم (محرر الصفحة) أو (الأدمين). ليس لى أى حساب على فيس بوك أو تويتر، وإنما هى مواقع أنشأها أصدقاء مخلصون وقد أوضحوا بجلاء أننى لا أدير الصفحة والردود ليست ردودى. برغم ما فى ذلك من شرف أكيد، فمن الصعب أن نتجاوز مرحلة نشر كتبي على النت بدون إذنى، لندخل مرحلة قول الآراء على لساني. ألا ترون فى هذا نوعًا من المبالغة؟.