تجاوز مسلسل انقطاع الكهرباء فى مدينتى طنطا حدود المعقول، ليصير مسرحية عبثية لا يمكن تصديقها. والغريب أنه شىء كالقدر أو الموت حيث لا أحد يعود ليحكى ما رآه.. لا يوجد من يرد عليك ولا من تسأله.. لا تفسيرات من أى نوع.. تبادل المواطنون تهنئة بعضهم بعودة الراجل الذى يقطع النور بالسلامة بعد إجازة العيد.
بلغت المعدلات سبع مرات يوميًا ومتوسط المرة ساعة أو ساعة ونصف. بلا مبالغة لم يعد هناك وقت كاف لشحن الكشافات الصينية التى صارت فى كل مكان، والبعض لا يجد فرصة لشحن الهاتف الجوال.
يوم الثلاثاء 5 أغسطس سوف يدخل موسوعة جنيس باعتباره ألعن يوم مرت به الكهرباء فى مصر منذ عقود.
سوف تذكر هذا الصيف طويلاً، وأنت تمشى فى الشوارع المظلمة يطبق عليك حر الصيف والعرق، بينما فى كل مكان هدير المولدات ورائحة العادم والكآبة.
المولد الذى صار الضيف الأهم فى كل بيت، وعلى عتبة كل متجر مصرى، بعد ما قررت الدولة أن الكهرباء مسئولية كل مواطن. كهرباؤك هى مشكلتك الخاصة وعليك أن توجدها لنفسك.. مع الوقت يكتسب المرء طباعًا أكثر قبولاً للقمع والذل، فترضى بما يحدث، بل إنك تعطى نفسك مكافآت صغيرة: هذه المرة عادت الكهرباء بسرعة نسبيًا.. هذه المرة كانت هناك نسمة ربانية فلم يضايقنا الحر كثيرًا.. هذا اليوم انقطع أربع مرات فقط.. ويوشك المرء أن يبصبص بذيله فى رضا بعد ما تدهورت إنسانيته وصار يقبل أى لقمة يلقونها له.
إن اليوم الذى لا تتلقى فيه علقة بالأحذية لهو يوم مجيد حقًا. المصريون العائدون من الخارج الذين جاءوا ليقضوا إجازتهم الصيفية أصابهم الهلع، وراحوا يعدون الدقائق بانتظار الطائرات التى ستنقذهم من هذا الجحيم.
الخسائر الاقتصادية الناجمة عن تعطل المصانع والمحلات والحرفيين لا يمكن حصرها، دعك من عبء جديد على الطاقة هو كل هذا البنزين الذى تبتلعه المولدات.
لا شك أن اقتصاد الصين ينتعش بصورة جهنمية مع كل هذه الكشافات والانڤرتر والمولدات..
هناك كذلك عنصر مهم من الشعور بالظلم والغبن.. بالتأكيد لا تنقطع الكهرباء بهذا الشكل فى القاهرة، ومعارفي الذين يعيشون فى المعادى والتجمع الخامس تنقطع الكهرباء عنهم ساعة أو أقل يوميًا إن انقطعت أصلاً، وهذا يعنى أن هؤلاء فقط هم المواطنون.. الباقون أولاد الجارية طبعًا.
قالت الحكومة إن الأزمة سوف تحل قريبًا.. وقيل إن إبراهيم محلب تحدث عن 45 يومًا لانتهاء الكارثة، ثم نفى أنه قال ذلك.. واليوم يتكلمون عن عام 2018... عام 2018 سنكون نحن قد متنا أو هم ماتوا أو قامت الحرب النووية أو القيامة.. لو ظللنا جميعًا أحياء فسوف ينفون هذا التصريح.
لماذا يكون المواطن مذنبًا ومسئولاً طيلة الوقت؟.. تترك الحكومة أعمدة النور مضاءة صباحًا ثم تتحدث عن الترشيد. وأى ترشيد بعد انقطاع الكهرباء سبع ساعات يوميًا؟.
ترشيد ماذا بالضبط؟... وما ذنب المواطن إذا كان هناك من أضاع ثلاثين عامًا ثمينة دون أن يفكر فى عمل مفاعلات أو الاتجاه للطاقة الشمسية؟ وما ذنب المواطن إذا كان هناك من باع الغاز لإسرائيل بملاليم؟
كان هناك منشور شهير يدعو الناس للخروج فى 30 يونيو عام 2013، يقول: «ماتنزلش يوم 30 يونيو بس اوعى بعد كده تشتكي لما الكهرباء تقطع.. أو تشتكي من أزمة السولار.. أو تشتكي لما بنتك أو أمك يتحرش بيها كلب ومافيش أمن يحميها.. أو تشتكي من الأسعار اللى داخلة سبق !». حسن.. لقد خرجت طنطا فعلاً يوم 30 يونيو عام 2013، فهل حان الأوان كى يجنى من خرجوا الثمار إذن، أم أن نفس الكلمات ما زالت صالحة؟
يبقى اللغز الأهم هو من يقطع الكهرباء ولماذا؟.. ومن الذى يقطعها فى أوقات حساسة مثل فطور رمضان وسحوره؟ كأنه يريد أن يستفز الناس لينفجروا. أنصار مرسى يعرفون الآن أن من يقطع الكهرباء لم يكن الفلول.. وأعداء مرسى يعرفون الآن أن مرسى لم يكن يصدر الكهرباء لغزة.. فمن يقطع الكهرباء ولماذا؟ الاحتمالات:
1- عناصر إخوانية تقطع الكهرباء كما قالوا، على أساس أن قطع الكهرباء وسيلة مضمونة لانفجار الناس وسقوط الحاكم، وقد تم تنفيذ هذا السيناريو ضدهم من قبل.
لكنى أتحفظ على هذا الاحتمال، فلو كان الإخوان متغلغلين فى وزارة الكهرباء لهذا الحد، فلماذا كانت الكهرباء تنقطع أيام مرسى إذن؟.. بل إنها وأزمة البنزين السببان الأهم فى الإطاحة به.
2- عناصر إرهابية تفجر الأبراج وتخربها. إذن هى مشكلة أمنية ويجب على الدولة أن تحلها بجهاز الأمن المتضخم الذى تملكه والذى يتقاضى راتبه من ضرائبنا.
3- لعبة رجال أعمال هى خليط من الضغط على الحكومة واحتكار استيراد المولدات.
4- المشكلة حقيقية تتعلق بأزمة الطاقة وتدهور المحولات ونقص الغاز.. فقط هى ورقة يستغلها كل طرف ضد الطرف الآخر. الكهرباء لعبة سياسية تستعمل فى الوقت المناسب، ولهذا كفت عن الانقطاع لفترة بعد رحيل المجلس العسكرى، وبعد رحيل مرسى.
ألغاز كثيرة وعلامات استفهام. لا أعرف الإجابة لكنى أعرف يقينًا أن روح الناس بلغت الحلقوم، ويبدو أن الحكومة مصرة على تجاهل هذه الحقيقة، مكررة نفس الأخطاء.
نريد عدالة فى توزيع الظلام ما دام كتب علينا أن نعيش معه... نريد شفافية فى شرح ما يحدث بالضبط.. نريد التنويه عن ساعات الانقطاع (وهو ما لم يفعلوه قط برغم أنهم يقولون كل أسبوع أنهم سينفذونه).
نريد خطة واضحة للاتجاه نحو مصادر الطاقة البديلة.. نريد طرد ذلك العامل السادي الذى يتسلى بقطع الكهرباء وعلى شفتيه ضحكة وحشية.. نريد أن نعامل كبشر