كتبت منذ عام مقالاً اسمه (عزاء بالجملة) بعد ما حدث فى رابعة، ونشرته جريدة التحرير مشكورة. أذكرك بهذا المقطع منه:
«عزاء حار لضحايا مذبحة الأربعاء. قد تختلف حول 30 يونيو وهل هو ثورة أم انقلاب أم بين الاثنين – وأنا شخصيًا لم أعتبره انقلابًا قط بسبب الملايين التى خرجت ضد مرسى – لكنك لن تختلف أبدًا حول كون ما حدث يوم أربعاء الرماد مذبحة كاملة، ولو لم تعتبره كذلك فأنت حر.. فى زمن يتهمون فيه البرادعى بأنه خلية إخوانية فأنت حر. كان بوسع الداخلية أن تحاصر الاعتصام بإحكام ولا تسمح بدخول الطعام والماء والوقود.. فقط تسمح بخروج من يريد أن يخرج.. هذا ما كانت تنويه وهذا ما اقترحه العقلاء، وهو بالطبع غير ما حلم به الإعلاميون الفاشيون الذين تمنوا حدوث مذبحة كاملة. تقول إن الحصار حدث؟.. إذن كيف دخلت كل هذه البلدوزرات وشكائر الاسمنت والأبقار ومدن ملاهى الأطفال للاعتصام؟.. لماذا لم تحكم الداخلية الحصار أولاً ولمدة أسبوع واحد؟. قبل فض الاعتصام بيوم واحد طالبت نوارة نجم بألا يتم فضه بالقوة لأن الداخلية لا تجيد سوى إطلاق الرصاص وسوف تحدث مجزرة.. هذا ما حدث فعلاً. أعرف ثلاثة ممن ماتوا فى فض الاعتصام، وأدرك يقينًا أنهم لم يكونوا مسلحين، ومنهم الطبيب والمهندس والصيدلي. ومعنى هذا خطير. إذا كنت بالصدفة أعرف ثلاثة فلابد أن عدد القتلى الحقيقى يتجاوز بمراحل رقم 500 الذى أصدرته وزارة الصحة. على فكرة لم يستطع أقاربي استرداد جثة ابنهم إلا إذا قبلوا أن يُكتب أن سبب الوفاة (انتحار). بالتأكيد كان هناك سلاح.. لا يزعمن أحد أن الاعتصام كان سلميًا بالكامل، وهناك لدى كل طرف أفلام تثبت كلامه، وقد رأيت فى كليبات إسلاميين يحملون البنادق الآلية ويطلقون بشراسة، كما رأيت بلطجية يحشون مسدساتهم وهم يقفون جوار رجال الشرطة ثم ينطلقون للعمل، ورأيت رجال شرطة حليقى الوجوه مبتسمين يطلقون الرصاص فى مرح كأنها رحلة صيد بط. لكن هل كل من ماتوا كانوا مسلحين؟. كانت النار مشتعلة فى مكان واحد.. ما فعلته الداخلية هو أنها ركلت الشعلة فتناثر الفحم المشتعل فى أرجاء مصر. والعنف لا يولد إلا العنف. وأعتقد أنهم قدموا خدمة عظيمة للمتطرفين وتنظيم القاعدة.. كل من مات قد ترك ثلاثة يريدون الانتقام بأى ثمن».
الآن مر عام كامل، حدثت فيه عمليات إرهابية عديدة لا يصدق المرء أنها وقعت فى مصر، وسالت دماء غزيرة بعضها من رجال الشرطة والجيش، ومعظمها من مؤيدي مرسي أو الرابعاوية، وظهر شعار رابعة الشهير، ولوحق أمنيًا حتى على مساطر الطلاب، حتى أننى صرت أحذر الناس من حادث يبتر إصبعهم الإبهام حتى لا يذهبوا (فى ستين داهية). عرفنا البارانويا الإعلامية والشك فى كل شيء حتى فى عروسة أطفال مثل أبلة فاهيتا.. كل شيء إشارة خفية. عرفنا نغمة (يستاهلوا) لدرجة اننى قرأت تعليقًا لقارئ نازى على مشاهد الجثث المكفنة: «يالله يا ولاد الكلب.. أقسم بالله أنا فرحان فيكوا». عرفنا الكمائن ضد رجال الشرطة والجيش والسيارات المفخخة والعبوات الناسفة، ومن جديد قرأنا من يعلق مهللاً سعيدًا لأن العسكري الغلبان صميدة قد مزقه الرصاص وهو واقف فى الكمين، فلن يعود لأمه فى شرشابة. لقد دخلت مصر فى ذلك العام عصرًا جديدًا من الإرهاب يذكرك بالسيناريو الجزائرى بلا شك، ولا شك أن هذا بدأ بعد فض الاعتصام وليس قبله. هكذا يتأكد المرء من أن نبوءته صحيحة وأن ما حذر منه كان له ما يبرره. العنف لا يجلب إلا العنف، وسوف يستمر ما لم يتم تحقيق واضح صريح فى مجزرة رابعة وميدان النهضة، ودراسة الحالات التى تم توثيقها فى أكثر من موقع إنترنت. أما التحقيق بطريقة (وزارة الداخلية حققت ووجدت أن وزارة الداخلية تعاملت باحترافية عالية) و(وزارة الداخلية حققت ووجدت أن وزارة الداخلية لم تقتل أى متظاهر فى ثورة يناير) فقد تقنع الإعلامي صاحب نظرية الكيس تحت الثياب المليء بطلاء أحمر يتم ثقبه بدبوس، لكنها لا تقنع المواطن الذى مات قريبه أو جاره وكتبوا فى شهادة الوفاة أنه انتحر بخمس طلقات!. ليس كل من ماتوا من قيادات الإخوان أو الذين أقسموا على المصحف والمسدس فى غرفة مغلقة، وإنما منهم المحاسب والمحامى والطبيب... المواطن العادى الذى كان هذا هو فهمه للتدين، ولا شك أن معظم من ماتوا كانوا معارضين سياسيين لا أكثر ولا أقل كأنها واقعة الميدان السماوي فى الصين. وما زلت مؤمنًا أن الحصار يقضى على أى اعتصام مع الوقت، ولو أرادت الحكومة أن تفض الاعتصام سلميًا كما أراد البرادعي لفعلت، عن طريق منع دخول أى شخص أو طعام أو وقود مع السماح لمن يريد الخروج بالخروج، وبالطبع كانت قادرة على استثناء سكان المنطقة، لكن هذا لم يحدث قطعًا لأننا رأينا أبقارًا وبلدوزرات ومدينة ملاه للأطفال.. لقد سمحوا للجميع بدخول الاعتصام ثم فتحوا النيران.
على كل حال لم أر فى حياتى أى مذبحة عوقب مرتكبوها، مرورًا بجنين وصبرا وشاتيلا والميدان السماوي ورواندا وجاليانوالا فى الهند واستاد بورسعيد.. إلخ.. ويبدو أن هذه من قواعد الحياة التى لم نتعلمها بينما تعلمها الآخرون جيدًا. إنهم عباقرة حقًا