رسوم الفنان: طارق عزام |
مرت عشر دقائق في هذا الوضع البائس، وأنا أحاول أن أرغم قدمي على الحركة، لكن الكاحل يزداد سوءًا .. علامات الالتهاب الخمس التي يعرفها الأطباء (الاحمرار – التورم – السخونة – الألم – فقدان الوظيفة) كلها تنطبق هنا، وتذكرني بعلاماتي التسع…
ربما لو حاولت الزحف …
للمرة الأولى مددت يدي لجيبي وأخرجت الهاتف المحمول .. هذا هو الوقت المناسب، لكني لا أحمل ثقة أو حبًا نحو الهواتف المحمولة وهي كذلك تكرهني، لهذا تتخلى عني دائمًا عندما أريدها .. عندما يتصل بي ابن خالتي ليشكو تغير عاداته في التبرز، وأنه لم يعد يخرج قطعًا متماسكة، فإن الهاتف يعمل بدقة مذهلة .. لكن عندما أرى حادثًا مروعًا وأتصل بالجريدة من أجل سبق صحفي، يتحول الهاتف لقطعة بلاستيك بلا منفعة. نسيت أن أقول كذلك إن الشبكة سيئة جدًا في منطقتنا … فإذا أضفنا لهذا أن البيت ملعون أصلًا، وبالتأكيد مشحون بكهرباء الأشباح الإستاتيكية، فإن بوسعي أن أقول لك إن الهاتف …………………
لا توجد شبكة .. فعلاً .. كما توقعت ..
رباه .. لا حل سوى الزحف كما قلت لك ..
في النهاية قد لا تكون تسع علامات كافية. فلآمل أن أكون حمارًا أو غبيًا ….
كنت على أرض البدروم ..
كما قلت لك من المعتاد أن يكون البدروم مضاءً، لكنه مظلم هذه الليلة، ومن الواضح أن هذا سبب سقوطي .. سمعت شيئًا يتدحرج على الدرجات فخطر لي أنه فأر بدين . هذا أسوأ شيء يمكن تصوره .. ليس ألعن من الفئران سوى ………..
سوى هذا الشيء الضخم الذي تدحرج ليسقط على بعد متر مني … يشبه بطيخة متوسطة الحجم لكنها لم تتهشم مع سقطة كهذه.
وجهت الكشاف نحو الشيء.. ولم أصدق .. لا. لم أصدق …
هذا الوجه .. وجه رأفت ينظر لي بعينين شاخصتين .. الوجه الذي كف عن تلقي الأوامر من المخ فتدلى لحمه. رأس مقطوع ملوث بالدم على بعد متر مني، وهذا الوجه هو وجه صديقي. فيما بعد – بعد زوال الصدمة – سأتذكر شعور مدام توسو النبيلة الفرنسية فنانة تماثيل الشمع، عندما كانوا يحضرون لها كل يوم رأسًا أو رأسين من وجوه أصدقائها في سلة، بعد ما أطاحت بها المقصلة، كي تصنع له تمثالاً من الشمع … كان هذا هو الثمن الوحيد كي تحتفظ برأسها هي. ترى ماذا كانت تشعر به؟. فيما بعد فرت بمجموعتها من الرؤوس الشمعية إلى إنجلترا ..
ليس هذا وقت الحكايات التاريخية طبعًا.. أنا في القبو عاجز عن الحركة، بينما رأس صديقي الذي – بالتأكيد – لن يطلق صياح البومة بعد اليوم على بعد متر مني ..
من ظفر به؟؟؟ هم طبعًا .. أسرة المهندس اللطيف سمير ناجي. لو كان أي سفاح قد قتله لما استطاع رمي رأسه في البدروم … إنهم هنا .. أعلى الدرجات .. كنت أرتجف .. وأعتقد أنني فقدت وعيي ثلاث دقائق أو أقل.
هنا وجدت أنني أمام العلامة العاشرة المؤكدة.
العلامة العاشرة (أن يجدوك ويعترفوا بأنفسهم أنهم موتى أحياء):
هذه أقوى علامة في رأيي ويمكن وحدها أن تكفي للتشخيص.
سمعت صوت الخطوات من أعلى، ثم ظهر أولهم عند باب البدروم وبدأ يهبط الدرجات في تؤدة .. كان هذا هو المهندس.. ثم ظهرت الزوجة .. فالصبيان فالفتاة الصغيرة ..
أضاءوا نور البدروم فرأيت كل شيء في الضوء الساطع لأول مرة. أراه من مكان منخفض لأنني على الأرض ..خمس الحفر.. الصناديق.. زجاجات فارغة يغلفها نسيج العنكبوت .. دراجة صدئة عتيقة .. حقائب بالية لا بدّ أن فيها شهادة تخرج الجد من مدرسة السلحدار الثانوية أو (فرمان) من أفندينا ولي النعم… مقاعد مهشمة …
كنت أرتجف كفأر في مصيدة .. لكن لم يكن هناك إندورفين يخفف من هول المصيبة. أين أنت أيها الإندورفين عندما نبحث عنك…؟
كانوا يحيطون بي …
قلت لنفسي إن جل ما أطلبه هو أن يتم كل شيء بسرعة .. كلما تم أسرع كان الألم أقل. أعتقد أن ميتة رأفت كانت سريعة مريحة. رب بحق ما سيصيبني الآن من ذعر وألم قبل موتي، فلترحمني من أهوال يوم القيامة ..
ساد صمت رهيب .. طلبت من قلبي أن يهدأ قليلاً لأتمكن من السماع..
ـ«الآن أنت تعرف».
للمرة الأولى أسمع صوت الرجل الذي كنت أراقبه منذ أشهر. ليس غليظًا أو مخيفًا بل هو أقرب للحزن والوقار.. أردف قائلاً:
ـ«نحن لم نفارق البيت قط .. كنا هنالك في الصندرة طيلة الوقت ننتظر .. ثم خرجت أنا لأعنى بصديقك. كنا نعرف أنك قادم وتعمدنا ترك المفتاح لك..».
ارتجفت .. رأفت رآهم يخرجون .. لا شك في هذا. إما أنه واهم أو هم يملكون القدرة على صنع هلاوس بصرية .. الحقيقة المروعة هي أنني كنت طيلة هذا الوقت في بيت واحد مع أسرة من الموتى الأحياء!.
قالت الزوجة بنفس الطريقة المهذبة الراقية:
ـ«أنت اقتربت من الحقيقة جدًا … أسرة المهندس التي تعيش حياة هادئة انطوائية في هذا الحي منذ الستينيات.. مشاجرة عنيفة مع العم الذي يريد شراء البيت. يفقد العم أعصابه ويطلق الرصاص على زوجي – أخيه – ثم أنا .. ثم يضطر لقتل الأولاد لأنهم شهود خطرون، بعدها يدفن الجميع في البدروم ويفر من البلاد، عالمًا أن أحدًا لن يفتقدهم بسرعة بل سيحسبهم هاجروا .. فقط يكلف محاميًا بأن يتولى أمور البيت الرسمية، ثم يموت في الخارج بعد عام ويدفن سر البيت معه. لا نعرف ما حدث .. بعد خمسين عامًا حدث شيء ما .. ابني أول من تحرر وحررنا بالرفش .. لماذا عدنا؟ لا أحد يعرف .. ربما كانت أرواحنا قلقة بسبب الميتة العنيفة .. قيل إن الأشباح بقايا من القوى النفسية لمن ماتوا .. إن من يموت يترك أظفاره وعظامه، وبنفس المنطق يترك قواه النفسية في مكان الموت .. هناك الشبح الجائع للوجود الذي لم يشبع من العالم قط لهذا يفضل أن يبقى فيه .. لا نعرف حقًا …»
قال الأب:
ـ«ما نعرفه هو أنك تدخلت في حياتنا أو موتنا أكثر من اللازم، وأنك تطفلت على أملاك خاصة .. وأنك يجب أن تتلقى العقاب».
قالت الزوجة:
ـ«لن نفعل كما فعلنا مع صاحبك .. بل سنجعلك تشعر بما نشعر به .. ستكون واحدًا منا، ولسوف يحاول صحفي فضولي سخيف أن يدرس حياتك يومًا ما».
لم أفهم ما تقول …
رحت أصرخ .. وأصرخ في هستيريا بينما هم يضيقون الدائرة حولي ………
*********************
أخيرًا أنهيت المقال..
عشر علامات تخبرك أن جيرانك موتى أحياء. مقال مهم ولسوف يكون بذرة لكتاب ممتاز. إن الناس تعشق هذا الكلام الظلامي الغامض الذي لا يمكن التحقق منه. العلم الفورتي Fotean سلعة رائجة في كل مكان وزمان.
من الغريب أنني لست جائعًا بعد كل هذا الجهد .. الجهد العقلي يشعرني بالجوع دائمًا. قرأت ذات مرة عما كان يأكله الكاتب الفرنسي بلزاك بعد الانتهاء من عمل أدبي فأصابني الرعب .. كمية هائلة من البط واللحوم والقواقع والخمور ثم كميات هائلة من الجبن..
كذلك لا أشعر بحاجة للنوم برغم كل هذا التركيز..
خرجت من غرفتي وكان أخي في الصالة يشاهد التلفزيون .. صاح في رعب:
ـ«كيف خرجت من غرفة النوم؟ لم تكن في الشقة أصلاً!.. نبحث عنك منذ أسبوع .. لا تقل لي إنك مختبئ تحت الفراش منذ أسبوع!!».
ما هذا السخف؟ كنت جالسًا على مكتبي أدون هذا المقال .. عم يتحدث؟
عندما خرجت للصالة المضيئة وصرت مكشوفًا للنور، رأيته ينظر لي في هلع .. صرخ صرخة مروعة ثم انطلق يجري..
ومن المطبخ خرجت أمي .. ولم تبد ودودًا جدًا :
ـ«بسم الله الرحمن الرحيم !… سترك يا رب!.. رحمتك يا رب!».
دوت صرختها .. لم أر في حياتي مثل هذا الوجه المتقلص المذعور توشك عيناه على الوثب. ثم أنها نظرت للسقف وابيضت عيناها.. تراخت ساقاها وسقطت على الأرض…
الويل!.. هل نوبة قلبية؟
جريت وأمسكت بمعصمها فوجدتها تتنفس .. النبض منتظم .. هذا إغماء..
سوف أحضر بعض الماء من الحمام وأسكبه على وجهها..
دخلت الحمام وملأت الشفشق البلاستيكي الكبير، ونظرت للمرآة فوق الحوض .. غريب هذا … الهلاوس والإرهاق الفكري يوحون لي أن هذه ليست مرآة بل نافذة في الجدار.. على الجانب الآخر شخص يلبس مثلي ويحمل (شفشق) من البلاستيك مثلي، لكن لحم وجهه متآكل تمامًا، تعبث فيه الديدان، وقد سقط رأسه جانبًا لأن عنقه ممزق لا يتحمل ثقله … مشهد بشع جدًا .. أنا مرهق نفسيًا فعلاً. هناك متلازمة نفسية اسمها (كوتار) حيث يتخيل المريض أنه جثة متعفنة أو أنه غير موجود.. لابد أنني مصاب بها ..
ذكروني أن أطلب رأي طبيب نفسي غدًا صباحًا، لكن لأسرع بمحاولة إنعاش (الحاجّة) أولاً.