لدي على قرص الكمبيوتر ملف يتضخم بشكل مستمر، من مقالات الإنترنت التي راقت لي، والتي أريد أن أتذكر انها موجودة. ومن وقت لآخر أجري عملية نسخ لحماية هذه الملفات التي تمثل ذاكرة خمسة عشر عامًا أو أكثر. من ضمن هذه المقالات وجدت مقالاً مؤخرًا كتبه طبيب شاب وصديق طنطاوي في الوقت ذاته، هو د. محمد صلاح قاسم. يمكنك قراءة هذا المقال هنا. وأرجو أن تفعل ذلك بعناية.
المقال يعتمد على عدد لا بأس من المراجع، مع خبراته الشخصية التي يقابلها المرء كطبيب كل يوم. وأنا أعتبره من أخطر المقالات التي قرأتها بالعربية مؤخرًا، لأنه يتحدث عن سيناريو يوم القيامة البيولوجي وفناء الجنس البشري بلا مبالغة. صار معتادًا أن تجد على غلاف النيوزويك أو التايم خبرًا يبشرنا بأن عصر المضادات الحيوية يوشك على الانتهاء واننا سنعود كما كنا منذ مائتي سنة: عرايا هشين أمام العدوى. عندما يصاب طفل بالتهاب اللوزتين أو امرأة بالتيفود أو تلتهب ساق مريض سكر بداء الحُمرة، فلسوف تكون نهايتهم لأن المضادات الحية لن تكون ذات نفع وقتها، وقد بدأت هذه العلامات المقلقة في الخارج، كما يرينا هذا الكاريكاتور الذي نشر في جريدة امريكية
نرى في الكاريكاتور كيف أن العم سام فخور بقوته, يعتقد أن الأمور لم تفلت من يده بينما تقتحم الباب البكتريا الجديدة التي تكونت من خلط صفات MRSA مع صفات VRE والتي يسمونها Super Bug. الجرثومة الخارقة .. جرثومة نهاية العالم. الكاريكاتور التالي يرينا الطريقة التي تكتسب بها البكتريا المقاومة .. هناك في الأزقة من يبيع لها الشفرة الوراثية التي تقاوم المضادات الحيوية. على طريقة (عاوز حشيش أو صور عريانة يا أستاذ؟)
هذا موضوع يطول على كل حال ويحتاج لعدة محاضرات، وإن كنت أرى أن المقال أعطاه حقه وأكثر. يقول طبيب غربي: "تذكر أن المضادات الحيوية مخصصة لمكافحة البكتريا وليس لإرضاء المريض وأهله!". هذه نقطة مهمة فعلاً، لأن المريض نفسه صار طاغية يصر على أخذ مضادات حيوية حتى لو كان مرضه غير بكتيري. الطبيب كذلك يصمم على عدم المقامرة. العيادة لا تحتمل الفشل .. يجب أن تعطي المريض أقوى وأغلى مضاد حيوي ممكن لأنك لن تجد الفرصة مرة ثانية ولسوف يذهب لطبيب سواك. هذا مجتمع تبعثر فيه المضادات الحيوية كالماء ولسوف ندفع ثمن ذلك غاليًا. كان عقار أمانتادين فعالاً ضد انفلونزا الطيور، لكن الصين في لحظة أنانية حمقاء أعطته للطيور في كل المزارع، والنتيجة هي أن عقار أمانتادين صار غير ذي قيمة في الانفلونزا.
ما يعنيني من المقال ليس دقته العلمية فحسب، بل رصده لظاهرة الأنانية المطلقة التي لا تفكر في الغد أبدًا. شعار هؤلاء الأطباء هو:"ليذهب الغد للجحيم .. أحيني اليوم فقط. وغدًا قد يخترعون دواءً أفضل أو يلطف الله بنا".
ينطبق هذا على أمور كثيرة جدًا في العالم وفي مصر. المصلحة الوقتية هي الأهم أما التخطيط لما بعد فليس مشكلتي.
تكلمت من قبل عن بائع عصير القصب الذي ابتعت منه كوبًا فوجدته مليئًا بماء أصفر مخضر بلا مذاق، ولما لمته هز رأسه في خبث. لا يهم أن يفقد زبونًا .. هناك صف طويل من الحمقى سوف يجربون ويقسمون ألا يعيدوا الكرة.
منذ أعوام سبب الصحفي الأمريكي ريبلي صاحب عمود (صدق أو لا تصدق) الشهير عاصفة احتجاج عندما ذكر حقيقة أنه لو مر صف طويل عرضه أربعة صينيين أمام نقطة معينة، فلسوف يستمر هذا الصف للأبد ولن ينتهي أبدًا. قال الناس إنه يهذي، لكنه رد عليهم بأن الصينيين يتكاثرون بلا توقف أثناء مرور هذا الطابور. يبدو أن هؤلاء الباعة يؤمنون بالقاعدة بشكل مطلق .. نحن كثيرون جدًا وهناك صف من الذين سيشترون ويُصدمون ..أعشني اليوم وأمتني غدًا .. هذا هو شعارهم..
هناك موقع على فيس بوك اسمه: لا تشتر من هنا. هذه هي وصلته. وهذا الموقع يمثل مجتمعًا يحكي فيه كل مشتر تجربته القاسية مع شركة ما. ليست للموقع أي صلاحيات سوى التحذير والتشهير أو إخطار جهاز حماية المستهلك. عندما تقرأ البوستات الموجودة يصيبك الذعر. كل الشركات والمتاجر تتعامل بطريقة: اذهب فغيرك آت بلا شك .. أو (أعشني اليوم وأمتني غدًا).. أنشر بعض النماذج هنا دون أسماء الشركات، فليس غرضي التشهير طبعًا..
هكذا يمكنك أن ترى هذا الطبق بثمن باهظ في مطعم شهير جدًا يؤمه الشباب، ولن أنشر صور جيوش الذباب والصراصير والديدان والأبراص التي وجدها رواد الصفحة في وجبات مطاعم فاخرة جدًا
ولسوف تقابل عشرات من عينة هذه الشكوى (صاحبة الشكوى محقة طبعًا لكنها ضعيفة في اللغة العربية، وهذا ليس مبررًا لسرقتها)
"تلفزيون (...) 32 بوصة اشتريته من سنة و باظ 5 مرات خلال السنة تخيلو حضراتكو ! و الصيانة مبترضاش تبعت حد يصلحه دة غير قله الذوق اللى بنشوفها منهم و أخر مرة رحت لهم من أسبوعين فى العباسيه مركز صيانة و كنت عاوز أغير التلفزيون بواحد جديد لأنه من الواضح أن فيه مشكلة كبيرة و غير قابلة للتصليح بيه و فؤجئت بناس كتير جدا بتشتكي من كافة منتجاتهم لكن اللى زعلني فعلا رغم قله ذوقهم و عدم أحترامهم للعملاء أن فيه ست كبيرة دخلت بتصرخ ( حرام عليكو التلاجة بتاعتي جايبه مياه من كل حته و الدنيا عندي غرقانة ) راح الأمن حاول يعتدي عليها !!! تخيلو جايبين بلطجية فى زى أمن و بيعتدي على ست كبيرة بتطلب حقها و لاحقا أنا لما لقيتهم مش عاوزين يغيرولى التلفزيون عملت مشاكل و طلعوني للمدير و اسمه (...) و دار حوار كبير أوي ملخصه أنه مش عاوز يأذيني و بيقولي شايف يا ابني الراجل الامن اللى وراك دة كان ممكن يأذيك عشان اللى أنت عملته تحت و أنا شايفك على الكاميرات و قلت أنت زى ابني والله عشان كدة بقولك أهدا و بعدين أنا عميد سابق فى الجيش أو الشرطة مش فاكر و حتى معرفش ذكر ليه كدة بصراحة ! المهم قالي أنا مقدرش أعملك حاجة .. نصيحة متشتروش من (...) و الله ناس كتير بتشتكي منهم و مش حالتي بس و حتى واحد من الأمن بنفسه ذكر لي أنه كل يوم يحصل الحوار دة و تقريبا كدة متعودين دايما !!"
يتكلم عن شركة كبرى اعتادت عدم الرد على أي مشكلة للعملاء او صيانة أو استرداد أي جهاز. إنما هي كلفت (روبوت) بأن يرد بشكل أوتوماتيكي على كل شكوى تمسها، لكن لا شيء يحدث أبدًا
كل هذه الشركات تتصرف بطريقة (أحيني اليوم..).. لا مشكلة في أن يتم هدم اسم الشركة او الثقة. من يدري ما سيحدث غدًا. الرزق لن يتوقف .. المهم اللحظة الحالية.
المثال الثالث الواضح هو السياحة.. لابد من سرقة السائح والسخرية منه والتحرش بنسائه من منطق التدين.. شاهد التحرش بسائحة في الهرم هنا. رأيت فيلمًا في ناشونال جيوجرافيكس يرينا تعامل سائق تاكسي مصري مع سائح، ونفس التصرف مع سائق تاكسي صيني. المصري غالى جدًا في السعر ولم يقدم أي شيء للسائح حتى زيارة الهرم نفسه، بل أرغمه على صيد السمك في النيل معه وحضور مباراة للأهلي ! وفي النهاية سوف يرحل السائح لبلاده ولن يعود أبدًا.. لكن من قال إن السائق مهتم بما يحدث غدًا؟ أحيني اليوم فقط ولتذهب الأجيال القادمة إلى الجحيم.
هذا النموذج ينطبق على أمور كثيرة جدًا في حياتنا، وبالتأكيد سوف نعود للكلام عنه في مقال آخر، لو أن الله أراد أن نعيش للغد وليس اليوم فقط !