http://www.examiner.com/article/father-s-day-west-virginia |
قال لي ذلك الصديق البربطاني : "كل عام وأنت بخير بمناسبة عيد الأب !".
تنبهت ككل عام إلى ذلك اليوم: 21 يونيو .. بالطبع هي مناسبة كالفالنتاين لا أتذكرها أبدًا إلا عندما يطالبونني بتذكرها، وإلا لكان علي أن أتذكر عيد تتويج الأبقار في لاتفيا، وعيد التنين الصيني ذي السنة الذهبية الواحدة، وعيد تنصيب شيفا الهندي .. طبعًا لا أتذكر سوى الأعياد الدينية الإسلامية والمسيحية، ولربما تماديت وتذكرت شم النسيم وعيد العمال لأنهما إجازة، لا أنسى عيد الأم أبدًا لأن الأولاد كانوا يستلبون مالي لشراء هدايا لمعلمات المدرسة، وكما قال ابني مذهولاً من جهلي وهو طفل: "عيد الأم معمول للميسّات .. مش لأولياء الأمور خالص".. هكذا علموهم في المدرسة: إن من لا يحضر هدية للميس في عيد الأم مصيره جهنم مع أبيه الفاسق.
عرفت من النت أن عيد الأب يكون في 19 مارس في البلدان الكاثوليكية، وهو نفس عيد القديس يوسف النجار. وفي الولايات المتحدة وبريطانيا هو يوم الأحد الثالث من شهر يونيو. وعرفت أن أول من احتفل بهذا اليوم هو امرأة من ولاية متشيجان الأمريكية، وذلك عام 1909.
نعم. لم أكن أهتم بعيد الأب خاصة أن أبي يرحمه الله توفي منذ عام 1991، ومن بعده جرت مياه كثيرة تحت الجسور، وأؤمن بشدة بمقولة: "أنت تشيخ فعلاً عندما تصير شبيهًا بأبيك".. هذا دقيق تمامًا على مستوى الشكل والطباع. لكن يوم 21 يونيو – برغم هذا - يحمل لي كذلك ذكرىات أسرية خافتة عزيزة..
أعرف أنا الصبي في الصف الثالث الابتدائي أننا في ورطة مادية معينة. لا أفهم ما هي، ولربما تتعلق بدفع أقساط شيء ما، فذكرياني عن طفولتي - كابن من أبناء الطبقة الوسطى - هي سلسلة طويلة من الأزمات المالية. كلمة (مزنوقين) كانت تُقال عدة مرات في الشهر، ولكننا كذلك لم نكن فقراء .. هناك نقود للطعام والعلاج والكساء بطريقة ما. قلتها لك: طبقة وسطى.
في ذلك اليوم الذي سأظل أذكر أنه 21 يونيو، قالت أمي لأبي إنها ذاهبة لزيارة صديقتها المريضة في المستشفى، وأخذتني معها. كان أبي غارقًا في خواطره السوداء في البيت، يفكر في طريقة الحصول على المال، لذا اكتفى بأن طلب منها أﻻ تتأخر.
كان هذا هو المغرب، وقد استقلت أمي عربة حنطور – لم تكن هناك سيارات أجرة في طنطا وقتها – وعلى صوت سوط الحوذي وحوافر الخيول مالت نحوي وهمست:
ـ"لن تذكر لأبيك شيئًا عن هذا المشوار .. لن تقول شيئًا"
لم أكن مهتمًا بشيء.. المهم أن يُسمح لي بالعودة للبيت للعب وقراءة مجلة ميكي التي لم أفتح صفحاتها الملتصقة بعد... الحنطور يقترب من منطقة السيد البدوي.. عاوز حبّ العزيز.. بعدين.. اصبر.. عاوز حُمّص.. ما تجننيش يا ولد.. اصبر..
هذه المنطقة تدعى الصاغة. متاجر الذهب متلاصقة، وفي كل متجر كهل مسن ينظر للعالم بشك، ويداعب كفة الميزان ويشرب القهوة المحوّجة ويبصق، جواره يقف شاب سمج بسوالف يلبس خاتمًا ثقيلاً ويطيل ظفر إصبعه الأصغر.. تدخل أمي وتطلب مني الجلوس، ثم تخرج من حقيبتها سوارًا ذهبيًا وسلسلة.. وتسأل عن ثمن بيع هذين. يزنهما الرجل مثل شيلوك يهودي تاجر البندقية، ويلقي رقمًا، لا يروق لأمي غالبًا فتقول شيئًا عن (ظرف مش كويس بيمر بيه البيت) وتحاول الوصول لرقم أكبر..
كنت أشعر بملل بالغ بعد كل المحلات التي مررنا بها، وفي النهاية حصلت على حفنة من المال أرضتها، فطوتها ووضعتها في الحقيبة، وابتاعت لي بعض حبّ العزيز، وعلى باب الصاغة استوقفتْ عربة حنطور أخرى وتفاوضت مع الحوذي ثم ركبنا. عادت لتهمس في أذني:
ـ"كما قلت لك .. نحن لم نفعل ما فعلناه .. كنا في المستشفى"
هكذا عرفت أن قيمتي الوحيدة هي الحماية. ما كانت سيدة لتجول في منطقة الصاغة وحيدة بعد الغروب، ولم يكن من داع لتحذيرها لي لأنني كنت قد نسيت كل شيء.. لم أعد أفكر إلا في مجلة ميكي. في البيت عندما جاء الليل سمعتها تفتح خزانة الثياب، ثم تصيح في فرح منادية أبي:
ـ"هذا المظروف فيه مال .. وجدته في جيب بدلتك القديمة .. كيف تنسى كل هذا المبلغ؟؟!"
وسمعت أبي يعد المال ويحمد الله على زوال الغُمّة. لا أحد ينسى المال بهذه السهولة، لكن أمي اقنعته أنه فعل ذلك.
ما زلت أذكر تلك الليلة، وأفكر في أن أمي خدعت زوجها. خدعته وباعت مصوغاتها من أجل فك ضائقة مالية يمر بها، فما كان ليسمح لها بذلك أبدًا لو عرف. ثمة أمهات أخريات كن سيكذبن لأغراض أخرى تمامًا.
تفاصيل .. تفاصيل .. تفاصيل .. هي ما تجعلنا نحن في النهاية. كل هذه المعاني أشمل وأعمق من أن يكون يوم 21 يونيو عيدًا للأب و21 مارس عيدًا للأم .. يجب أن يكون العام كله عيدًا للأب وللأم ..
أتذكر البيت في فصل الشتاء .. أمطار أكتوبر تنهمر بالخارج (نعم .. في ذلك الزمن كانت هناك أمطار غزيرة في أكتوبر). تدخل عائدًا من المدرسة وتنظف حذاءك الموحل على الباب، لتشم رائحة (الخبيزة) باللحم المحببة تعبق الجو .. وهي أكلة تكفي ملعقة منها لتجعل الدم ينفجر من أذنيك وعينيك. عجزت عن العثور على شاب من هذا الجيل يعرف تلك الأكلة على فكرة. دفء البيت وإنهاء فروض المدرسة والنوم.. ثم أبي يوقظني بقبلة على الجبين الساعة الحادية عشرة مساء. أنفه بارد وشعره مبلل من المطر، فقد عاد فورًا من عمله في دمنهور. يضع مجلة تان تان التي ابتاعها لي من محطة القطار.. يضعها على وسادتي، ويذهب ليتناول غداءه / عشاءه ..سيسافر من جديد في السابعة صباحًا.
التظاهر بالمرض في الصباح حتى لا تخرج للزمهرير في الشارع، وأمي تكتشف الحيلة بسهولة تامة. الذهاب لمدرسة الإصلاح الابتدائية وبخار الماء يتصاعد من فمك.. أبي وتوقيع الشهادة الشهرية وملاحظة أن الدرجات (زي الزفت).. الشبشب البلاستيك الأحمر بمعانيه الجليلة..
تفاصيل .. تفاصيل ... يجب أن يكون العام كله عيدًا للأب وللأم ..
ثمة ملحوظة قالتها لي زميلة فاضلة في العمل: الاحتفال بعيد الأم شيء جميل، ولكن لابد من مراعاة مشاعر الأطفال الذين فقدوا أمهاتهم، عندما يدور حولهم هذا الاحتفال الصاخب بعيد الأم. أغنية ست الحبايب وماما يا حلوة .. والإعلانات المحمومة عن هدايا عيد الأم. توفيت أمي – كاتب المقال – وأنا في السادسة عشرة من عمري، فكنت كبير السن نسبيًا، لكني لم أكف عن تخيل شعوري لو كنت في السابعة من العمر. قالت الزميلة: أتمنى كذلك أن يسيطر الإعلام على الاستعمال المفرط للفظة (أيتام).. ما شعور الطفل اليتيم الذي يدرك أنه يتيم فعلاً؟. لربما أمكن استعمال لفظة أخرى كما تعود المجتمع استعمال تعبيري (أصحاب البصيرة) و(ذوو الاحتياجات الخاصة) للدلالة على المكفوفين والمعوقين بالترتيب.
طبعًا هو كلام دقيق تمامًا، وإن كنت لا أعرف الحل بصراحة، فالاحتفال شيء مطلوب .. والاقتصاد فيه شيء مرغوب .. وأرى أنه لابد من رأي علماء نفس الأطفال في شيء كهذا. وحتى ذلك الحين أكرر: يجب أن يكون العام كله عيدًا للأب وللأم..