آسف على التعبير، لكن هذا المقال مخصص بالفعل للكلام عن الزبالة التي تجتاح حياتنا. الزبالة في كل مكان لابد أن تجعل تذوقك للفنون زبالة .. وتجعل أفكارك وأحلامك زبالة .. وحياتك كلها زبالة .. وبالطبع لا يمكن التعبير عن هذا كله إلا بمقال زبالة. والأمر على كل حال لن يختلف سواء كان تعبير (مقال زبالة) مضافًا ومضافًا إليه أم نعتًا ومنعوتًا.
أعرف أن المشكلة عامة، وفي كل مكان من مصر، لكنني أتحدث على الأقل عن طنطا التي أعرفها جيدًا، وأشهد أن الأشهر الأولى لتولي محافظ الغربية اللواء أحمد ضيف صقر شهدت تراجعًا مذهلاً في أكوام القمامة، وعاد للشوارع الكثير من رونقها، وفجأة انتهى كل شيء وعادت الأكوام تسد الطرقات كأنه ليس من حقنا أن نحلم. لا أعرف لماذا توقف الرجل .. هل هو التعب أم النسيان أم نقص الإمكانيات؟
يمكنك في بعض الأماكن أن ترى جبالاً حقيقية مغطاة بطيور أبي قردان، ويمكنك أن تشم الرائحة على بعد 500 متر، كما أن الناس تحرق القمامة في أي مكان، ولرب طريق ضيق على حافة ترعة تستحيل الرؤية فيه ليلاً بسبب الدخان، فتمشي فيه السيارات بمعجزة ما.
الصورة المنشورة هنا قديمة، لكن الوضع صار أسوأ .. هذه صورة من أيام الماضي العذبة عندما كانت الشوارع نظيفة
بدا واضحًا أن المشكلة كونية .. لا يعرف أحد طريقة للقضاء عليها, هي شيء أبدي لا جدوى من مقاومته إلا لو استطعنا مقاومة الموت. النظريات لا تتوقف وكذلك الحلول: الحل هو التعاقد مع شركات خاصة تتولى المسئولية. بالعكس – يقول آخر – هذا الجحيم بدأ منذ تولت الشركات الخاصة المهمة. الحل هو إعادة الزبال القديم الذي يأخذ القمامة من البيوت. إعدام الخنازير هو السبب ولا حل سوى إعادة تربيتها.. الناس قذرون يلقون الزبالة في عرض الطريق ويسرقون حاويات القمامة .. النبّاش الوغد يمر ليفرغ محتويات الزبالة في وسط الشارع.. إلخ .. إلخ.. حتى من يعتبر هذا الموضوع مهنتهم اقترحوا حلولاً جنونية في غاية السخف، ومنذ أسابيع اهتزت المواقع الاجتماعية بالسخرية عندما عرفت بالحل الثوري الذي توصل له حي ثان طنطا، وهو رش القمامة بالمبيدات. يعني لابد من الاعتراف بها كحقيقة أبدية أو أثر مقدس، وعلينا أن نطهرها ونعقمها، بصرف النظر عن تكاليف مشروع جنوني كهذا .. ربما يأتي من يطالب بدهانها أو زرع الورد فيها. أن تكون زبالة جميلة .. هذا هو الحلم
شاهد هذا التقرير المهم عن الزبالة هنا. كما قلت من قبل، فثقافة الزبالة تتسرب لأخلاقنا ومعاملاتنا وتذوقنا للجمال. الروح تزداد غلظة فلم يعد يؤثر فينا ويلمس روحنا إلا أغاني المهرجانات الصاخبة، ولم تعد يضحكنا سوى دعابات غليظة مثل أن يسجن رامز جلال النجوم في غرفة تحترق ويرشهم بخرطوم الحريق. عندما يروّح الشباب عن أنفسهم ويصطافون في مكان كهذا فماذا تتوقع؟. بل إنني لأجرؤ على القول إنك اكتسبت طاقة سلبية بعد مشاهدتك لكل هذه الزبالة في المقال، ولا شك أنك خرجت أسوأ قليلاً مما دخلت.
نعرف جيدًا أن ثورة كادت تقوم في لبنان بسبب تراكم الزبالة. الحملة التي اشتهرت باسم (طلعت ريحتكم) والتي نشبت في 22 أغسطس 2015، بعد انتهاء عقد الحكومة مع شركة سوكلين التي تجمع النفايات، وبعد فشل رئيس الوزراء تمام سلام في تحقيق وعوده بالقضاء على القمامة. والحقيقة أن القضية بدأت بالقمامة لتتطور إلى تصفية حسابات مزمنة بين ومع الحكومة اللبنانية وحزب الله منذ مقتل الحريري.
وما هو الحل؟
كلما تكلم المرء عن مشكلة ما قيل له : "أنت لا تجيد إلا (النقض) .. أنت (تاشكو فاقاط) ولا تقدم حلولن". هذه المرة قررت أن أقترح الحل الإغريقي. أنت تعرف أن هرقل قام باثنتي عشرة مهمة شديدة الصعوبة ، لكن من أصعب المهام التي كلف بها تنظيف زرائب الملك أوجياس. كانت تلك الزرائب تضم أكبر عدد من الماشية في التاريخ، ولم يتم تنظيفها لمدة 30 سنة. هكذا تحولت إلى مستعمرة ذباب كما صارت رائحة المكان لا تطاق، وانتشر الطاعون والتيفود في البلاد. تم تكليف هرقل بهذه المهمة من ناحية لأنها مهمة مهينة، ومن ناحية لأنها مستحيلة فعلاً.
قام هرقل أولاً بإخلاء البهائم من الزرائب، ثم قام بتحويل مجرى النهر فاندفع الماء لينظف الحظائر. وهي معجزة جديرة أن تنضم إلى معجزاته الاثنتي عشرة، لكنها أقلها كبرياء وأكثرها نفعًا للناس. أغضب هذا الملك لأنه وعد من ينظف الحظائر في يوم واحد بعُشر الماشية. رفض الدفع فقتله هرقل ووضع ابنه على العرش، ثم قام بتأسيس الألعاب الأوليمبية – على الماشي – قبل أن يرحل.
لم تفت سخرية الموقف على عين الكاتب السويسري الكبير فردريك دورنمات، فتناولها في مسرحية جميلة هي (هرقل وزرائب أوجياس)، وهي التي ترجمت في مصر باسم (البطل في الحظيرة). هرقل الذي أضنته الضائقة المالية لم يعد يجد أعمالاً يجني منها المال سوى هذا العمل المهين. إنه البطل الذي لا يفهمه أحد ولا يجد بطولات. وسرعان ما نكتشف أن الروث هو انعكاس لفساد النفوس وتلوثها. الروث هو الناس.
بما أن الشيء بالشيء يذكر، فقد قرأت تلك المسرحية منذ أعوام، ثم رأيت عرضًا جميلاً قدمته جامعة المنصورة عنها، دعاني لرؤيته الأديب وعاشق المسرح أحمد صبري غباشي، وأعتبره من أفضل عروض الشباب المسرحية التي رأيتها. شاهد لقطة منه هنا. وهو من إخراج السعيد منسي.
إذن ما نخرج به من القصة هو أن الزبالة تعكس نفوسنا التي لم تعد كما كانت .. إنها المعادل الموضوعي لشرور المجتمع وانعدام العدالة فيه. يبدو أنه لم يعد من حل سوى انتظار هرقل ليأتي وينظف الشوارع. وإن كنت أستبعد أنه سيجد ما يكفي من الماء لغسل الشوارع، فالنيل أيضًا ليس على ما يرام. لو كنت قد وجدت أن هذا المقال زبالة فعلاً، فماذا كنت تتوقع من مقال له هذا العنوان؟