في السبعينيات كانت هناك مشاكل رهيبة في تداخل خطوط الهاتف في مصر، حيث لا يمكن أن تجري مكالمة دون أن يسمعها 56 شخصًا؛ ولهذا التقط الساخر العبقري أحمد رجب الخط وكتب مقالاً جميلًا عن الفيلسوف الذي أنشأ نادي تليفونيس، حيث الناس كلها تتكلم في فراغ مفتوح وتسمع بعضها. وكلما حاول أحد الناس أن يتكلم سمع نشيدًا يقول:
«يا طيور انشدي ورددي .. أهلًا وسهلًا بالأخ المتوددي»
«مرحبًا بك يا سيدي.. فتودد واجعل بساطك أحمدي»
هذه دعوة للتودد من الفظاظة أن ترفضها.
فإذا أصيب أحد الناس بمرض راح كل من على الخط يصرخ: «إسعاف! إسعاف!»، حتى يسمعهم موظف الإسعاف بشكل ما. وهناك الرجل الذي يغازل حبيبته فيتدخل أحدهم في عصبية: «انت يا أستاذ ياللي بتحب.. موعد الندوة الثقافية اتأخر وانت معطلنا». هنا يتدخل شاب آخر: «عيب كده.. اتفضل يا أستاذ حب براحتك».
المقال كفيل بأن يقتلك من الضحك، لكن هذا كان بالفعل الحال وقتها، حيث كان الاتصال عسيرًا وتركيب خط هاتف مستحيلًا. ما زلت مصرًا على أن مبارك قدم الكثير في أعوامه العشرة الأولى، ومن بينها النهوض بالاتصالات والمرافق، وهذا بالطبع لا ينفي أنني ضده بالكامل في النصف الثاني من فترة حكمه. لقد طال عهده ليدمر بنفسه ما صنعه في البداية. هذا ليس موضوعنا على كل حال…………..
تذكرت نادي تليفونيس من جديد، عندما قال لي أحد أصدقائي إنه قام بالتسجيل في أحد المواقع الاجتماعية، ولم يكتب اسمه أو سنه أو أي معلومات عنه. لكنه أرسل رقم هاتفه ليتلقى كود تنشيط العضوية. فوجئ عند الدخول أن الموقع يعرض عليه قائمة أسماء (قد يعرفها)، منها جيران له في نفس البناية ودفعته في الكلية وزوجات أصدقائه، بل إن معظم الأسماء المقترحة من نفس دينه كأن الموقع خمن ديانته، أصيب بذعر، وإن كان التفسير الوحيد لديه هو أن الموقع قام بالاستيلاء على الأسماء المسجلة على هاتفه المحمول كلها، كما يفعل برنامج Trucaller بالضبط.
معنى هذا – يقول – إنه لا يوجد وهم اسمه الخصوصية على الإطلاق.. أنت مكشوف بالكامل.. هناك على شبكة النت نادي تليفونيس رقمي حقيقي.
تذكرت بالطبع قصة سنودن الذي قام بكشف ألعاب التنصت التي تمارسها المخابرات الأمريكية. رأينا في الفيلم كيف أن المخابرات قادرة على تحويل اللاب توب الذي تملكه فتاة إلى كاميرا تتجسس عليها حتى وهي تنزع ثيابها، وكيف صار سنودن نفسه غير قادر على النوم إلا إذا غطى شاشة الكمبيوتر، ولا يتكلم أمام زواره إلا بعد أن يضع هواتفهم المحمولة في الميكروويف أولًا.
هذه الفكرة قديمة جدًا، وتتعلق بمفهوم (الأخ الأكبر يراقبك) الذي عرفناه من رواية 1984، وحيث تراقبك شاشات التلفزيون في بيتك أربعًا وعشرين ساعة، وعليك أن تتحاشى أن يقبض عليك بتهمة التفكير.
صديق آخر لي قال إنه لاحظ أنه صار ذا بطن متدلية فبدأ يمارس بعض التمارين الرياضية الخاصة بالبطن، ثم إنه فتح الفيس بوك ففوجئ بإعلانات تدعوه لمشاهدة تمارين بطن للمبتدئين.
يقول صديقي – لن أذكر اسمه لأنني لم أطلب إذنه في النشر: «أنا عارف طبعا إن البرنامج بيراقب عمليات السيرش والمواقع اللي بتزورها علشان يعرف اهتماماتك ويجيب إعلانات متوافقة معاها، وبيراقب كمان تحركاتك الجغرافية عن طريق الجي بي إس، وبيعرف برضه بتقابل مين لإنه بيراقب الناس التانية كمان وبيعرف مين من الناس متواجدين في نفس المكان في نفس الوقت، وكنت قريت إنه بيراقب المحادثات عن طريق الميكروفون وبيحللها علشان يشوف كلمات مفتاحية للإعلانات، لكن ولا حاجة من دول تنطبق على اللي حصل معايا! ما أقدرش أقول إنه حلل أنماط الحركة لإنه ما كانش في جيبي ساعتها. كمان حتى لو بيفتح الكاميرا ويراقب، فهو كان محطوط ع البوفيه والكاميرا باصة ع السقف وأنا كنت ع السجادة! طيب إيه؟ الموضوع بقى مخيف جدا».
بالطبع لا أعتقد أن التلصص قد بلغ درجة قراءة الغيب أو التفتيش في الأفكار. الاحتمال الأقرب عندي هو أن الصديق رأى لا شعوريًا إعلانات عن تمارين البطن، فالتفت إلى بطنه الخاصة، أو لعلها صدفة واهية جدًا مما يحدث كثيرًا.
مؤخرًا كثر الكلام حول تسريبات جديدة من ويكيليكس يطلق عليها اسم رهيب هو (القبو 7)، ويبدو أنها صادقة هذه المرة. أعتقد أننا سنرى قريبًا فيلمًا مثيرًا يحمل هذا الاسم. الكلام يقول إن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية – بالتعان مع المخابرات البريطانية – تتجسس على الهواتف والتلفزيونات الذكية. سارعت شركة آبل بالرد نافية إمكانية ذلك، ومؤكدة أنها تقوم بسد الثغرات طيلة الوقت، بينما فضلت سامسونج التمهل. قالت معلومات ويكيليكس: إن وحدة متخصصة في التجسس الإلكتروني داخل الوكالة تمكنت من تطوير برنامج لاختراق هاتف سامسونج الذكي بحيث يظهر وكأنه مغلق عند إطفائه، ولكنه في الحقيقة يواصل العمل، ويرسل بيانات بالمحادثات الدائرة حوله إلى الجواسيس الأمريكيين. قالت التسريبات إن البرنامج له اسم شاعري هو (الملاك الباكي).
الأسوأ هو أن تلفزيونك الذكي من طراز سامسونج هو الذي يشاهدك ولا تشاهده أنت. إنه يسجل المحادثات التي تدور بقربه باستمرار، ثم يرسلها لوكالة المخابرات المركزية عبر الواي فاي عندما تفتح الشاشة ثانية. يجب أن تكوني حذرة عندما تبدلين ثيابك أمام التلفزيون يا سيدتي، فلربما تصيرين موضوع فيلم السهرة لدى الإخوة في وكالة المخابرات المركزية، أو تنهال على صفحتك في فيس بوك الإعلانات التي تقترح دهانات لإزالة شعر البطن أو السليوليت في الفخذين، وتندهشين أنت من هذه الصدفة العجيبة.
كانت الحياة محتملة بشيء من العسر عندما كان الأمن يتلصص على مكالماتك الخاصة ليذيعها المذيع إياه في برنامجه، فأنت تدفع ضريبة كونك خلقت مصريًا ولم تولد في كوبنهاجن، لكن عندما تتدخل المخابرات المركزية والأخ زوكربيرج وشركات الإعلانات في القصة فإن الأمر يصير صعبًا جدًا. إن نادي تلفونيس يعود للحياة فعلًا، ومن جديد يثبت أحمد رجب أنه كان عبقريًا.