أحد شوارع القاهرة، مصر |
«اقتناص الفرص» أو «اغتنامها» مصطلح أخف على الأذن وأكثر رشاقة، لكن «اهتبال الفرص» له مذاق خاص يوحي بالاستهبال أو الاستغفال.
يمكن القول إن سيد الششماوي كان يشعر بذعر بالغ، وهذا الذعر يتزايد من لحظة لأخرى. يشبه الأمر ما يشعر به من قطع شريان فخذه، وهو يرقب في هلع بركة الدم التي ترتفع من حوله.. يريد فرصة يهتبلها.
سيد الششماوي مدرس تربية رياضية في مدرسة صغيرة آيلة للسقوط في قرية جوار (…..)، وهو في الأربعين من العمر وله زوجة ثرثارة شرسة وولدان وقحان. لم يكن صاحب إرث أو قطعة أرض ما في قرية، وبالطبع لم يكن هناك من يهتم بأخذ دروس خاصة في التربية الرياضية.
سيد الششماوي يدرك اليوم مدى تعقيد الحياة، خاصة مع الأسعار التي تتزايد يوميًا. هو لا يبالي بأن توجد ديمقراطية أو لا توجد. فليحكمك البغدادي أو كارل ماركس أو اللنبي.. فليمنعوا الصحافة أو يحرروها. ما يعنيه فقط هو أن يستطيع أن ينفق على بيته بين طعام وشراب وملبس وعلاج وكهرباء ودروس خصوصية.
بعد ما اشترى وجبة من السمك المشوي واكتشف أن ثمنها ثمانون جنيهًا لسبب مجهول، وبعد ما ابتاع دجاجتين بمائة وعشرين جنيهًا، وبعد ما دفع خمسمائة جنيه في فاتورة الكهرباء وحدها، وبعد ما اكتشف أن الراتب لم يبق منه سوى جنيهين في يوم 7 من الشهر، عندها فقط أدرك أن الوضع خطير. هو غير قادر على إطعام أسرته، وبالتالي بدأت سلطته تهتز، بل إن أداءه الجسدي كرجل اهتز كثيرًا بسبب فقدان الثقة في نفسه، فليس من السهل أن تلعب دور الذكر مع امرأة أنت عاجز عن إطعامها.
كان يراقب الفضائيات ويفتح أذنيه جيدًا، وقد أدرك أن هناك طبقة متشابكة من المستفيدين الذين يمثل لهم هذا العهد فرصة العمر: النفوذ والثراء والتمكين. هؤلاء بالفعل صادقون في حماستهم للنظام ودفاعهم عنه، وهم يلوحون بالأعلام مرددين مصر هي أمي. هي بالفعل أمهم وأعطتهم كل شيء. لابد أن تحب منجم الذهب الذي تسرق منه يوميًا.
من بين هؤلاء رجال إعلام تملأ صورهم الفضائيات والإعلانات العملاقة في شوارع القاهرة، وهم يقبضون رواتب ذات ستة أصفار، ومنهم صحفيون يملكون كل شيء، ومنهم أشخاص كل موهبتهم بذاءة اللسان، وهناك حواة حقيقيون يعدون بعلاج المرضى بالكفتة وعلاج كل شيء بالمقدونس والبردقوش واستخراج الأسفلت من لحاء الشجر.
الفساد قد تشعب وتنامى لدرجة تجعل أيام دجاج توفيق عبد الحي الفاسد أو مشتقات الدم التالفة ذكريات عذبة من الماضي الجميل، عندما كان الكل شرفاء. مصر تتصدر أي قائمة مؤذية في العالم اليوم، سواء نسبة التحرش أو الفشل الكلوي أو التهاب الكبد سي أو الفساد المالي.. إلخ، بينما أي قائمة تتعلق بسرعة النت أو الدخل الشهري أو السعادة أو جودة التعليم فأنت تجد مصر في نهايتها أو قبل نهايتها.
في البداية فكر الششماوي في أن يكون ثوريًا وأن يعلن غضبه على هذه القشرة الفاسدة، ثم أدرك أنه وحيد تمامًا ولا أحد يسانده في رأيه. هكذا توصل لاستنتاج عبقري قاله الغربيون منذ زمن: إن لم تستطع هزيمتهم فلتنضم لهم.
سوف يفسد إذن.. ولسوف يثير فساده دهشة الجميع، لأنه سيكون فسادًا من النوع الجبار.. سوف يكتشف الفاسدون أنهم كانوا يمزحون، بل هم أقرب لأطفال يعبثون.
هناك فكرة افتتاح بيت دعارة، لكنه لا يعرف أي نساء يصلحن، كما أنه يعرف أنه منحوس.. سوف يكون افتتاحه لبيت دعارة بداية تعفف الناس جميعًا وإخلاصهم لزوجاتهم. نفس الشيء ينطبق على تجارة المخدرات.. الطريقة المثلى لحل مشكلة المخدرات في المجتمع المصري هي أن يقوم هو – سيد الششماوي – بمزاولة تجارة المخدرات. كما أنه لا يعرف الحشيش حينما يراه.. قيل له إنه يشبه العجوة أو البراز الجاف، وهو لا يتخيل أن يحمل برازًا جافًا في جيبه ويقتطع منه بالمطواة، ثم أنه عاجز عن نطق كلمة (ترامادول) بشكل صحيح.
يعرف أن هناك بيزنس هائلاً من تجارة الآثار يمارسه سادة المجتمع.. هناك غرف نوم كاملة تصدر للخارج وقد حشيت بآثار فرعونية ثمنها مليارات.. لكنه لا يعرف كيف يصل للآثار ولا من يبيعها ولا من يشتريها. لكي تتاجر في الآثار يجب أن تكون ثريًا ومن أعمدة المجتمع أصلاً.. المال والنفوذ يجلبان المال والنفوذ.
له صديق يكسب رزقه من شهادة الزور، حيث يجلس في مقهى أمام المحكمة ليكلفه من يريد بشهادة الزور مقابل مال.. لكن أساطين هذه المهنة قد احتلوا مكانهم الراسخ منذ زمن.
لا توجد عهدة تحت يده يسرقها للأسف؛ سوى حصان الوثب المحطم وشبكة الكرة الطائرة الممزقة وثلاث كرات. لا توجد أسئلة امتحان يقوم بيعها. هو غير مغر ولن يحقق نجاحًا لو باع جسده لهواة الشذوذ.
يعرف أنه لو كتب مقالات تنافق الحكومة فلسوف يبلى بلاء أفضل بكثير من البلهاء الذين يقرأ لهم، وهو بالتأكيد ذو حضور تلفزيوني أفضل من كل هؤلاء الذين يملئون الفضائيات.. سيفعل أفضل منهم بالتأكيد، ولسوف يكون أظرف وأوسع ثقافة، ولسوف ينافق النظام كما لم يفعل أحد من قبل.. ولسوف يضم الحكام إلى أولياء الله الصالحين. لن يقبض ملايين مثل هؤلاء المذيعين بل يكفيه أن يحصل على خمسين ألف جنيه شهريًا.
لكن كيف يصل لهذا؟
في كل يوم يزداد توترًا ورعبًا. أريد أن أسرق أي شيء.. حرام.. أريد فرصة..
أريد أن أرتشي.. أن أمارس تلك النشوة التي يشعر بها الموظف عندما توضع رزمة النقود في درج مكتبه الأيسر.. وتلاعبه بالكلمات الشبيه بالشعر: «ما تضيعش وقتي.. أنا باكل».. البلهاء سيفهمون أن الأكل هو النشاط الغذائي، بينما يدرك النبهاء أن الأكل يعني طلب رشوة.
يجب أن يسرق.. لو انتظر ستة أشهر أخرى فلن يجد مليمًا يسرقه. اللصوص يسرقون كل شيء وبسرعة جهنمية.. معجزة هذا البلد أنه يُسرق منذ عهد أحمس حتى اليوم وما زال واقفًا، لكن معدل امتصاص الدم يتسارع بشكل مذهل، ولسوف يحدث له ما يحدث للأبقار التي تمتص الوطاويط مصاصة الدم دمها ليلاً.. تظل البقرة تتصرف بشكل طبيعي عدة أيام، ثم فجأة تتداعى أقدامها وتسقط أرضًا ولا تنهض للأبد.
يجب أن يهتبل الفرصة.. يجب أن يسرق.. يجب.. مشكلة وجودية هي أن تحاول جاهدًا أن تسرق أو ترتشي أو تبيع مبادئك لكن لا أحد يهتم.
كان مكتب مدير المدرسة مفتوحًا والمدير ليس هناك. دخل وبحث حوله بحقد عن شيء يسرقه. كانت هناك ورقة من جريدة لف فيها ساندويتش طعمية وبعض المخلل. إفطار المدير الذي جلبه له عم شعبان ولم يأكله بعد. لم يتردد.. اهتبل الفرصة. أخذ الورقة بما فيها، وغادر المكتب متجهًا إلى غرفة المدرسين الخالية، حيث يمارس الفساد دون رقيب.