قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, April 15, 2017

كرباج ورا يا دعاء !



كل كاريكاتور لها هو كرباج عنيف يزلزل رضاك عن نفسك وعن المجتمع، ويهز مسلماتك ويصرخ في أذنك أن شيئًا ليس على ما يرام.. بالواقع لا يوجد شيء على ما يرام!! إنه دمل مستقر هناك تحت إبطك يؤلمك طيلة الوقت، وتخشى أن تضغط أكثر حتى لا ينفجر. لقد انتهى عهدك بالراحة.

تأكد لي هذا الظن عندما ابتعت كتابها الأول (50 رسمة وأكثر عن المرأة)، وهو ألبوم أو بورتفوليو – لا أعرف الفارق بالضبط – مطبوع على ورق أنيق فاخر، ويعتمد على الكاريكاتور الجرافيكي تمامًا، بحيث تتكلم الصورة وحدها بلا تعليق، ما عدا نصًا قصيرًا يفسر فكرة الكاريكاتور للقارئ الغربي، ولهذا فالنص مترجم إلى الإنجليزية والفرنسية ترجمة جيدة فعلاً. لا يوجد ما يدل على دار النشر التي طبعت الألبوم، وأعتقد أنها طبعته بنفسها. هل في كلامي شبهة دعاية للألبوم؟ لم لا؟ بالتأكيد!. فلندعُ لشيء جميل مرة واحدة في حياتنا


بدأت معرفتي بدعاء قبل ثورة يناير، عندما رأيت لوحة من لوحاتها على الصفحة الأولى لجريدة مستقلة، وكانت الصورة تمثل رجلاً بادي البؤس، ويحمل طاولة خبز ويجري مذعورًا بينما كلاب مسعورة تطارده. للحظات خيل لي أن رسامًا عالميًا من رسامي الجارديان أو النيوزويك مثلاً هو صاحب هذه الخطوط.. لو قيل لي إن هذا سرجيو أراجونس فلم أكن لأندهش كثيرًا، لكن في الوقت نفسه يبدو موضوع الرسم محليًا تمامًا. هكذا سألت العزيز هشام عبية، فأخبرني أن هذه دعاء العدل.. 


عرفت أن دعاء دمياطية ولدت عام 1979، وتخرجت في كلية الفنون الجميلة بالاسكندرية. وقد اعتدت أن أقابل رسومها المتميزة في جريدة الدستور والمصري اليوم.

أدمنت رسومها بطابعها المميز اللطيف، مع حلولها البصرية المذهلة. هناك رسوم تذكرني بالعصر الذهبي لمجلة صباح الخير، عندما كان صلاح جاهين وحجازي يصولان فيها ويجولان. لكن لدعاء أسلوبًا فريدًا خاصًا بها بشخصياتها اللينة المرنة. الأشقياء والتعساء عندها تعساء جدًا يوشكون على التحول إلى قطط أو كلاب ضالة، بينما أشرارها مبهرجون أثرياء ينعمون بكل شيء ولا ينقصهم شيء من الغلظة. إنهم أوغاد سعداء جدًا بكونهم كذلك.

ذات مرة قلت لها إن مستوى رسومها قد بدأ ينخفض في دمي، معتبرًا أن رسومها تشبه الهيرويين الذي يجب أن أتعاطاه من حين لآخر لأنتعش، وقد أرسلتْ لي على الفور مجموعة من أحدث رسومها. كررت نفس المقولة بعد أعوام في ندوة بالجامعة الأمريكية، لكنها كانت قد نسيت الدعابة في هذه المرة، وافترضت أنني أتهمها بانخفاض مستوى رسمها!. لا شك أن في طبع دعاء بعض الحدة المقبولة التي يعرفها أصدقاؤها. 



تعشق دعاء الكاريكاتير الخالي من التعليق الذي يقوم فيه الرسم بكل شيء، وهو يمثل ثورة بالنسبة لمفهوم الكاريكاتور لدى المصريين، الذين اعتادوا أن يروا رسمًا صغيرًا كل يوم لرئيس الوزراء أو كمبورة، يخرج من فمه بالون فيه مقال كامل تقرؤه في ربع ساعة. يعتبرون كل ما عدا ذلك صورة وليس كاريكاتورًا. على أن أسلوب دعاء يروق للفنانين الحقيقيين ويحصد الجوائز في المهرجانات بلا شك. كان الفنان العظيم اللباد – الشيخشاب يرحمه الله – يؤمن بموهبتها بشدة، وكلما سألته عن مستقبل الكاريكاتور في مصر، كان اسمها واسم قنديل أول اسمين يذكرهما ثم تأتي بقية الاسماء. الأهم من أسلوب الكاريكاتور هو ما يقوله.. دعاء لا تريد أن تقول شيئًا باسمًا أو سهلاً أو مريحًا. تريد أن تحارب فقط.

هكذا نجد أن دعاء حصدت حشدًا من الجوائز من عدة مهرجانات دولية ومحلية. جائزة عن مجمع أعمالها في معرض سان جوست بفرنسا.. جائزة من نقابة الصحفيين بمصر.. إلخ .. كما أن البي بي سي اختارتها ضمن أكثر النساء تأثيرًا في الشرق الأوسط لعام 2016. لم تكتف دعاء بالجوائز بل تم التحقيق معها بتهمة ازدراء الأديان عام 2012 عن رسم كاريكاتور سخرت فيه من استفتاء (نعم/لا) الشهير، الذي قالوا إنه يحدد مصير من يذهبون للجنة ومن يذهبون للنار. تضامن كثيرون مع الفنانة ومن أهمهم كارلوس لاتوف البرازيلي. شاهد هذا التقرير عن التهمة هنا

دعاء ثائرة دائمًا.. ضد القمع وضد الدكتاتورية وضد الفقر، لكن قضيتها الأهم هي اضطهاد الأنثى في مجتمع ذكوري يصر على التعامل معها كدجاجة.. شهية لذيذة لكنها بلا عقل وبلا حقوق. لكن دعاء غير مفتعلة في هذا الانحياز.. بل تشعرك أنها لا تحمل عقدًا خاصة تجاه الرجل. أنا بطبعي لا أطيق معسكر (ثائرة أنا على كل ذكور القبيلة.. يجب إبادة جنس الرجال القذر.. التفسير الذكوري للتاريخ.. إلخ) فقد قتلته الأديبات الشابات قتلاً، لكنك مع دعاء تنفعل فعلاً وتتعاطف فعلاً. 

شاهد هذا التقرير عن كتابها (50 رسمة وأكثر عن المرأة).. وهنا تقرير آخر مع سناء منصور. إن كتابها مثير للجدل وبالتأكيد سوف يصدم كثيرين، خاصة مع جعله المرأة دائمًا في دور الضحية المضطهدة، بينما كل الرجال في الكتاب أوغاد متحرشون انتهازيون كسالى بخلاء يتظاهرون بالفحولة وهم الجبن مجسدًا.. هذا مجتمع يتكون من نساء مطحونات وشياطين. والمرأة ليست مضطهدة فقط لأنها امرأة، على طريقة نزار قباني: "أنا أنثى.. أنا أنثى.. نهار أتيت للدنيا.. وجدت قرار إعدامي" ، بل هناك حالات مركبة، على غرار أنثى سمراء أو لا تنجب أو مطلقة أو خادمة.. وطبعًا هناك جزء لا بأس به عن الختان.. 


للأسف لا أستطيع أن أنشر رسومًا عديدة لأن هذا يفسد الألبوم عليك، لكن تنفيذ اللوحات غاية في الذكاء والبراعة، سواء كنت معترفًا بالتهمة أم لا.. أنا عن نفسي لا أرى أن الصورة أبيض وأسود بهذا الوضوح بل الرمادي يغلب على أجزائها.

في نهاية الألبوم الجهيم تقدم لنا دعاء فصلاً عن الأنثى التي ستكون كما تريد، ولن تهزم روحها برغم أمواه البحر العاتية. الأنثى التي تحطم قيودها كاشفة عن ساقين هما قلمان. أو الأنثى التي تتحول لفراشة... هناك الأمل دائمًا.

تيمة هذا الألبوم مؤكدة النجاح في الغرب وستروق للصحافة العالمية جدًا، ولنفس السبب حرصت دعاء على أن تترجم التعليقات بالإنجليزية والفرنسية كما قلنا. دعاء تكلمت عن همومها وهواجسها الشخصية، ومن حسن الحظ أن هذا هو الوتر المحبب جدًا لدى الغرب.

أمضيت ساعات ممتعة كالعادة فشكرًا للفنانة الرائعة.