قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Sunday, April 9, 2017

نظرية حنفي الونش


في شبابي كان هناك مسلسل أسندت بطولته الكاملة للفنان الظريف محمد رضا. اسم المسلسل (نجم الموسم) لكنه اشتهر باسم (حنفي الونش)، وهو تمصير لقصة سيدتي الجميلة/بيجماليون التي قتلها المؤلفون اقتباسًا. شاهد مقدمة المسلسل هنا


ما حدث بعد هذا كان أن المسلسل تلقى الكثير من هجوم النقاد، ولا ننكر أن بعض الهجوم قد يكون قاسيًا أو متعنتاً فيه الكثير من التحرش. لكن الفنان محمد رضا ظهر في حلقة من حلقات برنامج كاميرا 9، فلام كل النقاد الذين لم يرق لهم العمل، ثم طالبهم بأن يقوموا هم بتأليف مسلسل عبقري متكامل خال من الأخطاء، على أن يتم حفظ هذا المسلسل كأثر مهم يتعلم الفنانون منه من وقت لآخر ما هو صحيح وما هو سيئ. أي أن هذا منطق (ما دام عملنا لا يروق لكم فلتروني ما تستطيعون عمله أنتم).

كان هذا منطقًا غريبًا بالطبع. النقد قد يكون مستفزًا أحيانًا، وقد يتساءل الفنان عن الدور الخلاق الذي يقدمه الناقد. على الأقل أنا – الفنان – قد حاولت وفشلت، أما هو فماذا قدمه بالضبط؟. وهذا نفس ما قاله تشيكوف تقريبًا عندما وصف الأديب كحصان جر يعمل في الشمس وقد انتفخت عضلاته وبلله العرق، لكنه يكافح، بينما الناقد ذبابة تحوم حوله ولا تكف عن الطنين: أنا هنا.. انا موجودة وحية مثلك!. والرجل العادي يحفظ مقولة: من على الشط عوام. ليس أسهل من الكلام.

كل هذا مفهوم.. لكن منطق الفنان محمد رضا يحتم أن يكون الناقد خلاقًا وموهوبًا وإلا فليخرس. منطق الحياة نفسه يتعارض مع هذا.. رئيس قسم الشعر في كلية الآداب قد لا يجيد نظم بيت واحد، وليس محتومًا أن يكون رئيس قسم النقد في معهد السينما عبقريًا في الإخراج. الخليل بن أحمد الفراهيدي العبقري في تحليل الشعر قال مرارًا إنه عاجز عن تأليف قصيدة جيدة. معنى هذا المنطق القضاء على مهنة النقد وإخراس الأصوات نهائيًا.

كنت أفكر في هذه القصة وأنا أتأمل أحوال البلاد المتدهورة. هذا زمن صعب بحق.

كتب الساخر أحمد رجب مرارًا عن أغنية (لا مساس بمحدودي الدخل) التي تجيد الحكومة غناءها، وفي فترة من الفترات – أيام الرزاز – كان مصطفى حسين يرسم الوزارة في المغارة، حيث يجتمع الوزراء للاتفاق على سلب المزيد من مال المصريين، بينما يحرس المغارة بلطجية من لابسي الأساور الحديدية والفانلات المخططة. وقال أحمد رجب إن وزارة التموين تقدمت بأغنية لا مساس إلى مهرجان أغاني الغرفة التجارية فنالت الجائزة الأولى: "لا ماساس.. ولدي يا ولدي.. لا ماساس". كانت هذه سياسة (لاقيني ولا تغديني) التي كانت في بدايتها وقتها. اليوم هي السياسة الوحيدة.

مؤخرًا تلقينا الكثير من الوعود بأن الأسعار لن تتغير وأن سعر الدولار سيظل كما هو. هنا مثلاً. لكن الحقيقة الموجعة هي أنك كمواطن كنت أكثر ثراء والاقتصاد كان أقوى بمراحل منذ ستة أشهر لا أكثر. هذا الفيلم القصير تم تصويره منذ عام وكان المذيع مذعورًا من الغلاء لأنه لم يعرف ما ينتظره بعد عام!. كنا نعاني شظف الحياة اليومي ولا ندري ما ينتظرنا. بدأت المشاكل تتوالى، وصارت هناك علامات استفهام لا تنتهي.. دعك من أن الأمن الذي ضحوا من أجله بكل شيء لم يتحقق بعد، وما زال نزف الدم مستمرًا في سيناء، وفي الأسبوع الماضي تحرك الإرهاب ليضرب محافظتي المسالمة الناعسة: الغربية. لسبب مجهول رأى أحدهم أن التغيير لن يتم إلا بقتل مجموعة من رجال الشرطة الأبرياء عند نقطة مرور سالم، مع محاولات أخرى تم إفشالها والحمدلله. في أسبوع واحد قرأنا عن تحرش واغتصاب رضيعة وأسعار فلكية بلغتها الأسماك و.. و... الدولار ينخفض لكن الأسعار ترتفع بلا توقف وبلا منطق. شاهد هذا التحقيق عن أسواق بيع بقايا الطعام الفاسدة للفقراء، وهي تجارة رائجة اليوم. 


وفي كل مرة يقولون إن سبب هذا كله هو أننا نجحنا أكثر من اللازم. مصر مستهدفة وكل هذه مؤامرات. جميل جدًا لكن ما هو تعريف الفشل إذن؟ متى نقول إن الحكومة فشلت فشلاً ذريعًا؟. في النهاية تكتشف أن هناك استراتيجية واحدة تسيطر على هذه العقول: استراتيجية البقاء يومًا آخر، والحفاظ على ما في أيديهم من مكاسب.. فقط. أعتقد أن هذه أضعف فترة مرت بها الدولة المصرية منذ نشأتها، حيث صار كل شيء متروكًا للناس: الأمن.. التعليم.. العلاج.. الأسعار. فليسرق من يرد السرقة وليحرص على ألا يُضبط. من يظفر بشيء فليوفقه الله. فلتبع كيلو اللحم بألف جنيه من غد فلن يضايقك أحد.

تكتب عن هذا كله، فأنت لا تملك سوى القلم وعليك أن تخرج البخار من صدرك وإلا جننت. هنا يرسل لك أحدهم خطابًا مليئًا بالشتائم، مع عبارة (أنت لا تملك سوى النقض وليس لديك حلول). لسبب ما لابد لهذا الرجل أن يكون حمارًا في الإملاء كذلك. تقريبًا لم يرسل لي أي واحد كلمة (النقد) مكتوبة بشكل صحيح.

أفضل أن أتصور أن هذا الذي يرسل لي عضو نشط في لجنة 187 الإلكترونية بوزارة الداخلية، وأن هذه تعليمات مجدي بيه لهذا اليوم، لأنني لا أستطيع تخيل أن هناك شخصًا بهذا السخف. نظرية حنفي الونش هذه هي الطريقة المضمونة لإخراس أي نقد. لا تقل إن هناك مشكلة في التعليم بل عليك أن تقدم خطة كاملة للإصلاح أو اخرس.. لا تقل إن الصرف الصحي طافح في شارعكم، بل عليك أن تشمر أطراف سروالك وتنزل لتنزح الترانش أو اخرس.. لا تقل إن الطقس حار بل اقترح طريقة تبريد الجو أو اخرس . لا تقل إن السيارة تترجرج بل فك العفشة وانزل تحت السيارة وتأكد من أن المساعدين ممتازان أو اخرس.

الكاتب ليس طبيبًا.. الطبيب مهمته التشخيص والعلاج معًا، بينما يكفي الكاتب أن يشخص أو يظهر جوانب المشكلة أكثر. وعلى كل حال أنت تعرف جيدًا ما يحدث في مصر لكل من يقدم حلولاً بديلة.. هناك من كتبوا مسلسلاً متقنًا يمكن لمن يصنع مسلسلأً أن يرجع له، لكنهم بالتأكيد مختفون قسريًا حاليًا. والبديل؟ أعتقد أن أي بديل أفضل بمراحل مما نحن فيه الآن.