في أحد الشعانين الدامي التاسع من أبريل 2017 تلقت طنطا ضربة قاسية بحق.
في أحد الشعانين الدامي، فطنت طنطا إلى أن كونها بلدة صغيرة مسالمة هادئة لا يعفيها من طوفان الدم. مقولة إن هذه الفظائع تحدث في المحافظات الأخرى فقط، هي خرافة. هذه المرة الشهداء لهم أسماء ووجوه نعرف معظمها، وأعتقد أن كل مسيحي في طنطا له قريب قُتل أو جُرح في هذا الحادث.
ما حدث في طنطا يومها يمثل فشلاً ذريعًا كاملاً – في الغربية على الأقل – لوزارة الداخلية بكل أجهزتها ومدرعاتها وغازها، وعمالقتها المدثرين بالأسود ذوي الأقنعة إياهم. الإرهاب يحدث في كل مكان، وغالبًا ما يصعب أن تمنع الحادث القادم، لكننا هنا نكرر أحداث سبتمبر 2001 في أمريكا تقريبًا: تقرير يصل لبوش من هيئة الأمن القومي يحمل عنوان «ابن لادن ينوي مهاجمة أمريكا بطائرت تقتحم بنايات عالية»! برغم هذا لم يهتم بوش ولم يحتط. بالنسبة لطنطا كان هناك أسبوع رهيب، فهذه هي الكنيسة الأهم في طنطا تقريبًا، ومنذ أسبوع واحد وجدوا جسمًا غريبًا بداخلها.
قيل إنها إشاعات وقيل إنها مقلمة أطفال نسيها طفل – مقلمة أطفال تشبه القنبلة لا أدري كيف – وبعدها بأيام وقع انفجار مروع عند نقطة مرور سالم حيث مركز تدريب الشرطة، وقد أودى بحياة كثيرين. برغم هذا تصر الداخلية على أن تندهش عندما تنفجر نفس الكنيسة بعد أسبوع واحد، وكان عليها أن تضاعف احتمالات الأمن أو تمنع إقامة القداس، ولكننا كالعادة نكتشف كل شيء بعد فوات الأوان. وكما يقولون ساخرين في الشبكات الاجتماعية:
حاولوا مرة ففشلوا، لكنهم ظفروا بالتوفيق في المرة التالية
أهين مدير أمن الغربية السابق عندما زار الكنيسة وأقيل من منصبه، وأنا أرى أنه يستحق هذا تمامًا.
في أحد الشعانين الدامي، اكتشفنا أننا صرنا عاجزين عن تهنئة المسيحيين بأعيادهم، ففي كل مرة تحدث كارثة تجعل في التهنئة الكثير من الحرج. هناك من يجد لذة جنونية في أن يحرم المسيحيين فرحة العيد.
في أحد الشعانين الدامي، كان هناك فارق واضح في التعامل الأمني بين طنطا والاسكندرية.. تعامل رخو في الأولى وتعامل دقيق في الثانية. ولولا عم نسيم السكندري الذي أرغم الفتى على المرور بكاشف المعادن لاستطاع الفتى الدخول، وكنا سنسمع عن ألف قتيل بلا مبالغة. البطل عماد الركايبي ورفاقه استشهدوا وهم يؤدون واجبهم، لكن غريزة المبالغة الدرامية جعلتهم يكتبون عن أنه احتضن الإرهابي لابس الحزام الناسف. هذا تصرف عجيب لو صح فلا أحد يحتضن من يحمل حزامًا ناسفًا، وعلى كل حال فالصورة المنتشرة ليست للشهيد عماد، ولا المنفذ الذي كان يلبس (سويتر) أزرق وليس أحمر، وكلنا رأينا الحادث بكاميرات التصوير.
كاشفات المعادن خارج الكنائس معطلة أغلب الوقت، ورجال الشرطة لا يفتشون الحقائب. كل هذا قيل أيام الكنيسة البطرسية، بينما برهن كاشف المعادن على أنه اختراع بالغ الأهمية. وبرغم سقوط 14 شهيدًا، فقد كان العدد مرشحًا لمائة ضعف. يظل السؤال قائمًا عن طريقة دخول متفجرات لكنيسة مار جرجس في طنطا بهذه البساطة. هل الأجهزة معطلة؟ هل هناك اختراق أمني ما؟ أم ماذا بالضبط؟
في أحد الشعانين الدامي، كانت طنطا جريحة مذهولة صامتة تحاول استيعاب ما حدث. وفي المستشفى الجامعي ومسجد المنشاوي تزاحم الجميع للتبرع بالدم. لم يقل أحد نفس الكلام الحامض الجاهز عن عنصري الأمة. كل ما كان الجميع يدركه هو أن هناك مصريين ينزفون. ضوضاء سيارات الإسعاف الصارخة والزحام والتوتر والصراخ.. كل هذا يمنح المشهد عبثية الكابوس. رائحة الموت في الجو.. تشمها بوضوح.
في أحد الشعانين الدامي، قاموا بإخلاء المجمع الطبي بطنطا بعد الظهر، وبدأ المطر ينحدر بقطرات خفيفة حزينة.. كأن العالم كله مذهول. الكآبة هي اسم اللعبة. هذا أحد حزين ستذكره طنطا ومصر طويلاً. هذا بالطبع لو استطعت الخلاص من صورة الطفلة الشهيدة التي كان كل ما اقترفته من ذنب هو أن نهضت في الصباح مستبشرة بالعيد. سوف تصنع بالخوص أزهارًا وطيورًا وأشياء رائعة. لم تسمع طبعًا عن الخوص المصبوغ بالدم لكنها ستتعلم بسرعة.
في أحد الشعانين الدامي، برهن البعض على أنهم لن يتحملوا المسئولية أبدًا، وأن غريزة الظهور بمظهر العليم ببواطن الأمور كاسحة. تقريبًا في ذلك اليوم سمعت عن 40 جسمًا غريبًا وعن 20 قنبلة انفجرت، وفي كل مرة هناك من يقسم أنه رأى الانفجار بعينيه. وفي الوقت نفسه يعلن موقع اسمه تحت الأرض مسئوليته عن الحادث كأن هذا وقت التهريج. الصفحة عبارة عن خليط فارغ من عبدة الشيطان والماسونية وقداس الدم لشخص لا يعرف أي شيء عن هذا كله.
في أحد الشعانين الدامي، يكتشف المصريون للمرة الألف أنهم ضحوا بالحرية والاقتصاد والتعليم والصحة وأفلسوا تقريبًا، أملاً في بعض الأمن، لكنهم لم ينالوا أي شيء. فقط قيل لهم إن هذه الضربات رد يائس من الإرهابيين على نجاحات الأمن المتواصلة.
في أحد الشعانين الدامي، سوف يدعو الجميع لتضافر الجهود الأمنية والتربوية والأسرية لحل المشكلة، وأنا اعتدت أن أي حل يستدعي هذا (التضافر) يفشل دائمًا. أعتقد أن البداية أمنية وقبل كل شيء، ولابد من مراجعة سياسة الأمن عامة، مع تجديد فكر وزارة الداخلية عن طريق استقدام خبراء أجانب.. ماذا عن البريطانيين الذين واجهوا تفجيرات جيش التحرير الآيرلندي في الماضي؟ بالتأكيد هناك الكثير من الفكر المختل الذي أوصلنا لما نحن فيه، لكن لا يمكن إصلاح أخطاء أربعين عامًا بهذه السرعة. يمكنك البدء لكنك بحاجة للحل الأمني أولاً إلى إن تنجح في تغيير طريقة تفكير المصريين في جيل قادم.
أنت تعرف جيدًا أننا عشنا نحو أربعين عامًا من الشحن ضد المسيحيين، ولا تبدأهم السلام ولا تهنئهم بالعيد.. إلخ.. أيام الكلية كانت تعم السعادة كلما بطش الأساتذة بطالب لأن اسمه بطرس. بالطبع لم يصل هذا المقت لدرجة التفجير أو الإيذاء المادي، لكن هذه تربة صالحة يمكن أن تزرع فيها أفكارًا أخطر. ونحن نعرف أن الانتحاري التفجيري يمر بفترة طويلة من غسل المخ والحرمان الحسي أو تنويم مغناطيسي صريح. يمكنك أن ترى بسهولة إصرار الفتى ولهفته على تفجير نفسه كي يلحق بالحور العين. إنه (مرشح منشوري) يقتل دون أن يفهم جيدًا لماذا يقتل.
في أحد الشعانين الدامي، أعتذر لإخوتي المسيحيين.. عن ماذا بالضبط؟ لا أدري. لكني أعتذر بشدة.