إسقاط القنبلة النووية على هيروشيما |
هذا من دون جدال شهر المذابح. لقد استحق اللقب بلا منافس قريب إلا بعد بضع سنوات يصل فيها شهر آخر لنفس درجة الأداء. الشهر يدنو من نهايته معلنًا قدوم سبتمبر/أيلول الشاحب الرمادي، ومعه عيد الأضحى المبارك، لكن لابد أن نفارق هذا الشهر شاعرين بغصة ونحن نتذكر الدماء التي سالت فيه.
افتتاحية مثيرة جدًا من اللهب الأبيض الذي يمحو كل شيء ويذيب الذرات نفسها، مع سحابة عش الغراب اللعينة تتصاعد لعنان السماء فوق بلدة يابانية مسالمة هي هيروشيما. إنه السادس من أغسطس/آب حيث تحلق الطائرة إينولا جاي الأمريكية فوق الجزر اليابانية حاملة القنبلة التي سموها (الرجل البدين). ثمرة أفكار فريق العلماء العبقري الذي ترأسه اوبنهايمر والذي أجرى تجارب لا حصر لها في لوس ألاموس. لقد عرف الجميع أن هتلر لا يملك القنبلة الذرية وهكذا لم تعد هناك ضرورة لاستكمال صنعها، لكن المشكلة هي أن التجارب تقدمت جدًا وصارت القنبلة حقيقة ملموسة. اليابان تقترب من الاستسلام، لكن إغراء اللحم المشوي وتجربة السلاح اللعين الجديد أقوى من أي اعتبارات.
الطيار يرى السحابة فيهتف بلفظة بذيئة ثم يهمس: «ياللسماء !.. ما هذا الذي فعلناه!؟». أنا قد أصبحت الموت مدمر العالم .. كما تقول الصلاة الهندوسية التي ترنم بها أوبنهايمر لحظتها.
تهوي القنبلة فوق هيروشيما فتبلغ الحرارة درجة لا توصف، وما زالت هناك على الأسفلت صور لأشخاص كانوا واقفين يتكلمون. لقد طبعها الإشعاع وحمضها. مئات الألوف يحترقون ويهرعون للنهر هربًا من الحمم والحرائق، لكنهم لم ينجوا. كان على هذا اليوم أن ينتهي بمائة وخمسين ألف قتيل، مثلهم عانوا أمراضًا مزمنة وسرطانات. لقد أنشبت مخالب الشيطان في كل شيء، وكشفت أمريكا عن وجهها الذي لا يرحم. وكان على ناجازاكي البائسة أن تتلقى القنبلة التالية.
لو لم تظفر دول أخرى بسر القنبلة ليولد توازن الرعب، لصار العالم كله تحت رحمة الولايات المتحدة.
*******
ننتقل إلى 12 أغسطس/آب عام 1976، والذي تصادف أنه يوم جمعة. إلى مخيم تل الزعتر الذي يقع شرقي بيروت. الفلسطينيون بالنسبة لبعض اللبنانيين كانوا أقرب إلى المحتلين الذين يجب أن يبادوا بلا رحمة، وقد اتحدت الميلشيات المسيحية مع الجيش السوري للفتك بأبناء المعسكر، في سيناريو شبيه نوعًا بسيناريو صبرا وشاتيلا الذي تم بعد هذا بستة أعوام.
الوجه القبيح للحرب الأهلية اللبنانية يكشف عن نفسه من جديد.
تم حصار المخيم لمدة 52 يومًا، مع قطع الماء والكهرباء مما دفع الأهالي إلى أكل الكلاب لدفع شبح الجوع، وتلقى المخيم عددًا هائلاً من القنابل والقصف، ثم تم الاجتياح تحت قيادة داني كميل شمعون وتدمير المكان وتسويته بالأرض. وقد كلف هذا الفلسطينيين نحو 3000 قتيل قتل معظمهم بالسلاح الأبيض. وتم نقل من بقي منهم إلى مخيم البداوي شمالي لبنان، وهو ما يطلق عليه حي تل الزعتر. ما زال هناك ألفا فلسطيني مجهولو المصير يفتش عنهم الصليب الأحمر.
حتى اليوم لا نعرف من ربح الحرب الأهلية اللبنانية ولا ما مكاسبها لأي طرف؟ هناك لحظة تدمير ذاتي لدى كل شعب تدفعه في لحظة بذاتها للانتحار. لو لم يوجد عقلاء بعدد كاف فإن الثمن يكون فادحًا جدًا. وليس الأمر صعبًا. كلنا رأينا كيف ينجح الشحن المعنوي في إشعال جذوة حماقة الجماهير وتوحشها.
*******
ينقلنا هذا إلى مذبحة أغسطس/آب الثالثة التي قتل فيها مصريون مصريين مثلهم، ورقص مصريون طربًا وهم يرون جثث مصريين آخرين.
مذبحة رابعة في 14 أغسطس/آب التي تمر عليها أربعة أعوام دون تحقيق أو أرقام دقيقة. كان الإعلام قد شحن الناس وجعله يعتقد أن الميدان يعج بالمسلحين وأنهم يقفون فوق منصة مليئة بالجثث، ومعهم قنابل غاز وصواريخ.. إلخ. ما زلت مصرًا على أن الحصار يكفي لوأد أي اعتصام تريد الحكومة وأده .. امنع دخول أي شيء واسمح لمن يريد الخروج بالمغادرة. لكن ما حدث هو أن الداخلية سمحت بدخول كل شيء حتى الماشية والمراجيح والبلدوزرات، حتى تحولت رابعة إلى مدينة صغيرة. بدا واضحًا أن الغرض هو تجميع الكل في بوتقة واحدة ثم الانقضاض لتصفية كل شيء.
عرفت طبيبًا ومحاميًا ومهندسًا ماتوا في المذبحة، وبالتأكيد لم يكن أحدهم يعرف طريقة استعمال السلاح ولم يملك سوى صوته. على كل حال اعترفت وزارة الصحة بـ 800 قتيل مما يدل على أن العدد أكبر بكثير.
*******
فإذا تركنا مذبحة رابعة نأتي إلى مذبحة أخرى تمت في نفس العام؛ وهي مذبحة الغوطة. تحوم كثير من علامات الاستفهام حول هذه المجزرة ومعظم الأطراف تتهم الجيش السوري، بينما آراء قليلة تتهم المعارضة السورية نفسها أو فرق القتل الغربية الأجيرة.
يوم 21 أغسطس/آب بين الثانية والخامسة صباحًا والناس نيام، تسقط صواريخ مليئة بغاز الأعصاب (السارين) فوق الغوطة الشرقية ومعضمية الشام بالغوطة الغربية. أي طبيب يرى اللقطات المصورة سيدرك أن هذا غاز سام؛ التشنجات.. رائحة الخل أو غاز البوتان.. الرغاوي على الفم.. ثم الحدقة الضيقة التي تميز كل الجثث وهي علامة على مضادات الكولين إستريز أي سم الحشرات وغازات الأعصاب.
النتيجة هي 1400 قتيل معظمهم من النساء والأطفال.
اتهمت المعارضة السورية قوات بشار الأسد بإطلاق هذه الصواريخ المحملة بغاز السارين، من اللواء 155 بالقلمون.
هنا يبرز سؤال مهم: ألم يجد بشار الأسد وقتًا أفضل لقتل مواطنيه بالغازات من الوقت الذي يوجد فيه وفد من مفتشي الأمم المتحدة في دمشق؟؟ وعلى بعد خمسة كيلومترات من الفندق الذي يقيم فيه المفتشون؟ هذا ما قاله زعيم كردي معارض رأى أن بشارًا ليس بهذا الغباء خاصة أنه كان الطرف الأقوى فعلاً وقتها وليس بحاجة لهذه الضربة، وهو رأي منطقي فعلاً.
المخابرات الألمانية والفرنسية اتهمت نظام الأسد، بينما اتهمت روسيا المعارضة.. وعلى الأرجح لن نعرف الحقيقة أبدًا.
هكذا تنتهي مذابح أغسطس التي أعرفها، ولهذا يمكنك أن تفهم سعادتي البالغة بانتهاء هذا الشهر وقدوم سبتمبر برغم أنه في الأدبيات العربية يدعى (أيلول الأسود)، لكنه أقل شراسة ودموية.