كل عام وأنت بخير.
سنؤجل الحديث القاتم والكلام عن يوتوبيا التي تتحقق اليوم بإصرار غريب يثير إحباطي. نتكلم اليوم عن مناسبة سعيدة هي عيد الأضحى.
عندما أشم رائحة الضأن القوية تنبعث من الخراف المربوطة أمام دكان الجزار المجاور، فإنني أعرف أن عيد الأضحى قادم قبل أن يستوعب ذهني المعلومة. نوع من الارتباط الشرطي. ابنتي تكره هذه الرائحة كراهية التحريم وتؤكد أن حتى مياه الصنبور تكون لها ذات الرائحة. الحق أنني أحب هذه الرائحة لأنها تستدعي حشدًا من الذكريات.
لم نكن أسرة ثرية، بل هي الأسرة التي ينطبق عليها مصطلح الطبقة الوسطى حرفيًا، لكن ظل الخروف جزءًا من تقاليد العيد، حيث ترسله جدتي هدية لنا كل عام تقريًبا، وكان يصل بحفاوة مع السيارة نصف النقل والحبل الغليظ وصوته الأجش الذي نعتقد أنه (ماء) بينما يعتقد الغربيون أنه (باء). هناك في الحمام يقف كضيف فوق العادة له ثقله وأهميته. ثم يأتي يوم العيد والذبح وبرك الدماء وشعوري الممض بأنني أتخلى عن صديق، وهو الشعور الذي يزول فورًا بمجرد أن يبدأ طهي اللحم.. تتحرك عصارات معدتي وأنتظر في شغف.
بعد الإفطار الشهي يأتي الجزء القذر من العملية – بالنسبة لي – وهو أرغفة الخبز المحشوة بالأرز واللحم التي يأخذني أبي معه لنوزعها في أماكن تجمع الفقر والمتسولين. نجوب أزقة ضيقة وعرة خلف السيد البدوي وفي منطقة سيدي مضيها والشيخة صباح. هناك تكتشف درجات من الفقر والقبح والتشوه لم تتصور أنها موجودة قط، ويخرج لك المتسولون من الظلمات يئنون مثل أفلام الزومبي.
كنت في العاشرة مثلاً، وكنت أعتبر هذه الجولة تنغيصًا.. ضريبة لابد منها مقابل متعة لحم العيد، بينما كان أبي يعتبرها أهم لحظات اليوم. وفي المساء نقوم بجولة سريعة أخرى على بيوت الأقارب وطانط فلانة وطانط فلانة. ينتهي اليوم وأنت كتلة عجين من فرط الإرهاق.
لكن البيت مليء باللحم، وأنا لا أكف عن الأكل كأنني الطفل المقصود في بيتي بيرم التونسي الجميلين:
استنظره الموت وفي العيد الكبير جاله
في اللحم لما أكل من كل ما طاله
أكل في بيتهم وبيت عمه وبيت خاله
ويعيد غداه كل ما يدخل لأهله ضيوف
كانت معدتي ما زالت في فترة الضمان.. لقد خرجتْ من المصنع لتوها، وكانت قادرة على هضم الحجارة والزلط.. تعبير (عسر هضم) كان يبدو لي نوعًا من الخيال العلمي الغامض.
بعد يومين تضع لي أمي قطعة لحم كبيرة لكن مشبعة.. في اليوم الرابع هي قطعة في حجم علبة ثقاب صغيرة فأجن رعبًا.. هل انتهى كل شيء بسرعة؟.. تقول أمي بلهجة الحكيم الذي خبر قسوة الزمن:
ـ«كل سنة وانت طيب.. الخروف خلص!»
مستحيل!… هناك سرقة في الموضوع.. هناك عشرة كيلوجرامات مخبأة في مكان ما من الثلاجة، أو لابد أن نوبة كرم غلبتها فأعطت زوجة البواب خمسة كيلوجرامات.
يكون علي أن اتحمل قسوة الحياة ومرارة انتهاء كل شيء، خاصة أمام طبق البامية القرديحي أو طبق الفول الذي سيأتي في اليوم التالي.. تلك تجربتي الأولى مع التشيروفوبيا أو الخوف من السعادة.. الخوف من قسوة انتهائها.
توفيت جدتي وتوقف معين الخراف السنوي، وكان علي أن أنسى هذه العادة إلى أن كبرت وصارت لي أسرة. كانت هناك عقبة دومًا أمام شراء الخراف، هي أنني خلقت كي يخدعني التجار الأوغاد.. لابد من أن يعطوني خروفًا سقيمًا في منتهى السوء، ثم لابد أن أدرك دائمًا أنني تأخرت جدًا.. دائمًا متأخر جدًا حتى لو بدأت البحث عن خروف بعد رمضان مباشرة أو منذ عام أو لربما كان يجب البدء في البحث بمجرد إنهائي المدرسة الابتدائية. دائمًا ما تدرك أن الخراف الجيدة اختفت وأخذها الأوغاد الآخرون. أما عن الجزار الذي يأتي ليذبح الخروف فلابد أن يسرق الكبد والممبار و.. و…. تكتشف هذا عندما تتفحص زوجتك الذبيحة. أما عند توزيع اللحم فالأقارب والمعارف يبدون اشمئزازهم من مذاق اللحم، ويقول العارفون:
«لأنك وضعت اللحم في أكياس وهو ما زال دافئًا»
يقولونها وهم يلتهمون آخر شريحة من اللحم الضأن الذي أرسلته لهم.
انتقلت إلى مرحلة الأسهم.. وهي أن تشارك في سبع عجل مع مجموعة أخرى. وهنا ظهرت البارانويا في أوضح صورها. يوم العيد لابد أن تراقب العملية: الذبح والتقسيم بعينين في منتصف رأسك فالجزارون يخبئون أطنانًا من اللحم بعيدًا عن عينيك. ثم يأتي بعد هذا دور التقسيم.. أنت تنال أقل من الآخرين في كل الأحوال، واللحم الذي تناله رديء لا يؤكل. مجرد كيلوجرامات من الشغت والدهن، دعك من أن الكمية تقل كل عام. هناك من يصنع ثروات حقيقية من أمثالي.
ثم ينبري أحد الشركاء الحريصين الأذكياء ليهتف – وفي عينيه نظرة تهديد – أنه لابد من تقسيم الرأس على سبعة!.. كيف يتم ذلك؟ وكيف يتم توزيع الأمعاء؟ وماذا يتبقى من الكبد الذي يتم توزيعه على سبعة؟ هكذا تقرر في النهاية أن تتنازل أنت.. فلن تنتظر طيلة النهار وتتشاجر من أجل عين بقرة تعود بها للبيت. طبعًا لتسألك زوجتك عن سبب عدم جلبك للممبار الخاص بالذبيحة.. تركته لهم؟
بعد أعوام من هذا الصراع والسقوط في شباك المخادعين عشرات المرات، قررت أن الحل الأفضل هو شراء الصكوك من المصرف باسم أي من تلك الجمعيات الخيرية المنتشرة.. لايوجد ذبح ولا خداع ولا شركاء متشككون، بل أصعب ما في العملية أن تقف أمام موظف المصرف لتعطيه المال. وهنا تكتشف أن المبلغ صار تقريبًا ضعف ما كنت تدفعه العام الماضي. بركات تعويم الجنيه تتسلل إلى كل شيء، لكنك تدفع.. في مصر تدفع أولاً ثم تشكو.
على المقهى لوح أحدهم بمبسم الشيشة وسعل وبصق وقال لي:
«كيف تضمن أن ما دفعته لن يصل لجيوب أحد رجال الأعمال أو يستخدم في تجميل مكتب مسئول كبير؟.. أنت تركت مالك في المصرف ولم تر ذبحًا ولا لحمًا ولا دماء».
بصراحة لقد أنهكتني الشكوك وأرهقتني البارانويا. لابد من أن يثق المرء بشخص ما في هذا العالم وإلا فعلينا ان ننتحر جميعًا. لا أنصح أحدًا بشيء لكني وجدت الحل الوحيد المثالي لشخص مثلي يهوى أن يخدعه الجميع. وفي النهاية يعلم الله أن نيتي صادقة.
كل عام وأنت بخير.. لندع الله في العام القادم ألا تكون الأمور أسوأ.. لربما نطمع كذلك في أن تصير أفضل!