رسوم الفنان طارق عزام |
الصوت الذي سمعه خلفه لم يكن مألوفًا.. لم يكن كفحيح الأفاعي لو خطر لك هذا، لكنه صوت ميكانيكي رتيب غريب. لهذا يتخيل من يمر بنهر الأمازون أنه يسمع قاربًا بخاريًا يقترب. هناك صوت آخر للتماسيح شبيه بصوت طبل مكتوم، ويعرفه من تعاملوا مع التماسيح جيدًا..
سامح لا يدرك أن هناك أنثى تمساح مياه مالحة عملاقة تدنو منه..
سامح لا يدرك أن عاطفة الأمومة والحماية قوية عند هذه الوحوش..
كانت تتقدم نحوه في بطء وهي تصدر ذلك الصوت..
تراجع للخلف مذعورًا فتعثر في الرمال وسقط أرضًا.. لأول مرة يدرك التشابه القوي بين هذا الوحش والديناصورات كما تبدو في الرسوم..
أدرك أنه لن يجد الوقت الكافي لينهض قبل أن ………………..
هنا كان التمساح يتراجع للخلف. عندما رفع سامح عينيه أدرك أن أحد العمال في المزرعة يجذبه من ذيله بقوة، ولم يكن الأمر سهلاً لأن ذيل التمساح الزاخر بالعضلات قادر على قتل رجل، لكن العامل نجح في إبعاده بضع خطوات، ثم صاح في الفتى أن ابتعد مسرعًا..
نهض سامح الذي لم يحتج لأمر آخر وأطلق ساقيه للريح. عندما نظر للخلف رأى أن الرجل يجر التمساح جرًا نحو البحر، وعندما ارتطمت الأمواج بالزاحف البشع بدا كأنه نسي المشاجرة الرهيبة التي كان يشتهيها وفضّل السباحة.
على مائدة الغداء كان هناك طبق من لحم التماسيح، وبالطبع لم يجسر الأب على لمسه، لكن سامحًا تذوق قطعة، وبدا له شبيهًا بطعم أفخاذ الدجاج نوعًا.. لم يكن شبيهًا بلحم السمك كما تخيل سابقًا..
قال ديفيد وهو يصب لنفسه بعض الحساء:
- «قال لي توماس إن أنثى تمساح تعرضت لك على الشط.. خذ الحذر.. من النادر أن يهاجم التمساح الناس على البر، لكن الأمر يختلف إذا تعلق بتهديد يتعرض له الصغار..»
ضحك سامح ولم يعلق..
قال ديفيد:
- «ليس من المعتاد أن تمشي التماسيح كل هذه المسافة لتضع بيضها.. قلت لك إننا نسمح لها بالتجوال في الجانب الغربي فقط»
واصل الكبار الأكل والكلام، بينما خطر لسامح أنه يريد السير قليلاً على الشط.. الحق إنه كان مفتونًا بالبيض الذي وجده وسط الرمال، والذي كاد يكلفه حياته.
من جديد مشى فوق الرمال يفتش عن البقعة التي وجدها..
لا توجد تماسيح قريبة. ممتاز.. لو ظهرت الأم من لامكان هذه المرة فهي كائن شيطاني فوق الطبيعة..
أخيرًا دنا من مجموعة البيض.. هنا أصابته الدهشة..
لقد كان بعض البيض يتحرك ويهتز.. ثم رأى بيضة تتمزق قشرتها اللدنة، ورأى خطمًا صغيرًا يبرز من الداخل وهو يحاول التحرر.. هذا تمساح يولد في هذه اللحظة المباركة..
جثا سامح على الرمال مفتونًا بالمنظر.. هناك تماسيح صغيرة أخرى توشك على التحرر.. مد يده والتقط بيضة من البيض السليم وفتح حقيبته ودسها فيها.. ثم عاد يراقب هذه الأعجوبة.
أخيرًا خرج التمساح الصغير من البيضة.. كان في حجم السحلية الصغيرة، ويحتفظ بنفس درجة قبح وبشاعة البالغين. كل الكائنات الطفلة جميلة لكن يبدو أن التمساح استثناء.
عندما مد سامح يده نحو الكائن فوجئ بأنه وثب في الهواء محاولاً قضم إصبعه!
هذا مذهل!.. إنه يحتفظ بشراسته كاملة منذ لحظة الولادة.
لا أحد يقدر على أن يمسك بهذا الوحش الصغير الوليد بين يديه.. إنه سيقضم يدك فورًا…
قرر سامح أنه رأى ما يكفي.. هكذا انطلق جريًا عائدًا نحو أبيه وديفيد. يمكنه تخيل التماسيح الصغيرة وهي تتخبط إلى أن تأتي أم من الأمهات الجوالات على الشط لتعنى بها. على الأرجح ستقودها نحو البحر..
المغامرة الصغيرة التي بقيت له كانت أن يحمل البيضة معه سرًا إلى داره عندما عاد أبوه، بعد يوم ممتع مرهق في مستعمرة التماسيح. كان هناك في البيت حوض أسماك زينة فارغ لم يبق فيه سوى بعض الحصى، وقد صب فيه بعض الماء ثم نقله لغرفته وهناك وضع البيضة على القاع وطفق يراقبها.
المعجزة لم تتأخر أكثر من يوم واحد..
عند ظهيرة اليوم التالي رأى المنقار الصغير يهشم القشرة، وخلال ربع ساعة تحرر كائن فاتن صغير بحجم السحلية. كان لحوض السمك غطاء قابل للغلق.. لذا وضعه بإحكام وراح يراقب التمساح الوليد الذي يضرب الجدران الزجاجية..
- «سوف أطلق عليه اسم (سولتي) نسبة للمياه المالحة التي جاء منها».
ولنفس السبب ملأ قبضته بالملح وسكب بعضه في الماء ليجعل البيئة مألوفة بالنسبة للتمساح. ثم أنه بحث في الثلاجة حتى وجد بعض علب التونة. فتح واحدة واقتطع منها بعض اللحم المفتت بملعقة. وفتح الحوض من أعلى. هنا وثب التمساح برشاقة مذهلة محاولاً قضم أنامله. وجد بالكاد الوقت الكافي ليسقط قطعة اللحم ويعيد غلق الغطاء..
- «هذا الحوض يحوي قنبلة موقوتة».
قالها لنفسه، وإن اعترف أنه كائن فاتن.. فاتن إلى أقصى حد…
****************
كامل يواجه لحظات سوداء.
لم يكن ما يخوض فيه مجرد وحل وديدان.. لقد انزلق عدة مرات، وفجأة أدرك أنه يتحسس جثة.. هذا حق.. جثة بشرية متحللة تسبح هناك وسط الوحل.
أصابه الفزع الهستيري الذي يصيب من يتحسس جثة، كأن الموت مرض معد ينتقل باللمس. تراجع للخلف وشهق.. يريد بعض النور.. يريد أن يعرف أين هو بالضبط..
على العموم يدرك من الوحل الذي لامس شفتيه أن هذا ماء عذب.. ليس في البحر. كان يعرف أن هناك مصرفًا يلتقي بالبحر في النقطة التي كان يسبح فيها. ذات مرة رأى جثة حمار طافية كريهة الرائحة تتجه عبر مياه المصرف والوحل لتصب في البحر..
يمكنه أن يخمن أنه في هذا المكان.. لكنه ليس على السطح.. الأمر أقرب إلى كهف مظلم تحت مستوى المياه، وهذا الكهف يسمح بدخول الهواء من مكان ما…
كهف مليء بالجثث المتحللة؟
عليه أن يتحرر وأن يجد مصدرًا للنور..
كان يشق طريقه بصعوبة بحركات أقرب للسباحة.. سباحة في الوحل.. وأدرك أن الجثة التي شعر بها لم تكن الوحيدة. كما أن هناك جثة حيوان متحلل لم يتبين طبيعته.
يرى نجوم السماء..
إنه يتحرر ولا شك في هذا..
لكن يبقى السؤال: ماذا أتى بي هنا؟ أين أنا بالضبط؟
يتبع