قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, November 4, 2019

أنت لست زبونا

الدستور - 2009


المدرج يضج احتجاجًا من صعوبة امتحان الطب الشرعي في ذلك اليوم من عام 1984، وقد راحت عشرات الأصوات تتعالى بالشكوى للدكتورة، وكانت أستاذة سكندرية واسعة العلم ذات شخصية كاسحة تذكرك بالفنانة (سناء جميل) كثيرًا. انتظرتْ حتى هدأت الضوضاء ثم قالت في ثبات: «تذكر أنك لست زبونًا وأن هذه الكلية ليست مطعمًا.. فقط في المطاعم نقول: الزبون دائمًا علي حق! أنت لست على حق» رغم هذا، في امتحان آخر العام قال لي الأستاذ الممتحن وأنا أخرج من اللجنة:
«دخّل الزبون اللي بعدك!»

كدت أعتبر هذا اعترافًا صريحًا بأنني زبون، لكني وجدت أنه لن يقبل هذه الدرجة من التبسط طبعًا. بعد التخرج قابلت صديقي الطبيب الذي قضى ثلاثة أيام في قسم جراحة العظام بلا نوم، وكان يمشي ساعة الظهيرة تحت الشمس الحارقة عائدًا لداره دون أن يستوقف سيارة أجرة. قلت له إن في أسلوب حياته مشقة بالغة وتعذيبًا لا شك فيه، فقال: «وهل قال لك أحد إن مهمة الحياة تدليلك؟ أنت هنا في مصر يا صاحبي فتقبل قدرك كرجل واخرس!»

لم أنس هذه العبارة قط كما لم أنس موضوع الزبون هذا، ومع الوقت نجحت في أن أعيش في مصر حتى هذه السن عن طريق إقناع نفسي أنني لست زبونًا وأن مهمة الحياة ليست تدليلي.. اليوم الذي لا ينفخونك فيه أو يجلدونك بالسياط هو يوم مجيد. تمشي في شوارع قذرة غرقت في مياه المجاري… المدخل الوحيد للشارع تسده سيارة فيكون عليك أن تجرب الأكروبات ماشيًا فوق قطع قرميد ملقاة وسط الماء القذر. تنقطع الكهرباء في الليل لساعات، ومع الكهرباء لا توجد قطرة مياه لأن الموتور لا يعمل، وبالطبع ينقطع الهواء لأن المراوح وأجهزة التكييف لا تعمل.. تحمل.. أنت لست زبونًا.

ترتفع أسعار كل شيء وتكتشف أن مصاريف بيتك تضاعفت عدة مرات خلال ستة أشهر.. لكنك لست زبونًا.. مصر ليست مطعمًا مهمته أن يسعدك لتعود… لا أحد يريد أن تعود بل يريدون أن تذهب في ستين داهية.

سوف أعطيك مثالاً بسيطًا:
كانت هناك ندوة لي في القاهرة الساعة الثامنة مساء يوم 29 يوليو.. قل لي فيم أخطأت من فضلك.. حجزت تذكرة علي قطار 922 الذي يغادر محطة طنطا الساعة 06:5 مساءً حسب ما يبشرنا به موقع الإنترنت الخاص بالهيئة.. هذا قطار فاخر مكيف.. سوف تصل في السادسة والنصف ويكون أمامك وقت ممتاز تصل فيه إلي جاردن سيتي. هل ارتكبت أي خطأ؟

أنا في المحطة منذ الرابعة عصرًا لأنني من الطراز المتوتر الموسوس بصدد المواعيد. وصل القطار أخيرًا في الخامسة والثلث.. ممتاز.. في مصر لا وجود لربع الساعة ولا ثلثها.. هنا لاحظت شيئًا غريبًا.. كل الأبواب مغلقة تقريبًا.. هناك مئات الركاب ينتظرون الركوب وعلى هؤلاء أن يحشروا أنفسهم عبر ثلاثة أبواب فقط!

بدأت أركض نحو باب مزدحم.. أم تصرخ وتقذف ابنتها للداخل.. رجل يركل رجلاً آخر.. كوع في وجهك.. وفجأة…. تحرك القطار…!

لم أصدق للحظة ما يحدث.. لابد أنهم يمزحون.. هذا القطار لم يتوقف أكثر من ثلاث دقائق بالمعنى الحرفي للكلمة، ولا يمكن لقطار يقوده خرتيت في أية دولة في العالم أن ينطلق بينما نصف الركاب وضعوا رجلاً فوق ورجلاً تحت.. ألا يطلقون صفارة ويدقون جرسًا وأشياء من هذا القبيل؟ ألا يوجد ثمن لحياة الناس؟

لكنه ينطلق.. يسرع.. والناس تركض وتثب للداخل، وهو ما حاولت عمله دون حماسة طبعًا.. لن أمضي بقية حياتي على مقعد متحرك من أجل ندوة.. وفي النهاية فطنت إلي أنه انطلق فعلاً تاركًا نصف الركاب على الرصيف!

لابد أن منظري كان رائعًا وأنا أقف على الرصيف مزيجًا من الخواء وعدم الفهم والغيظ والبلاهة والشعور بالخداع. نعم أنا لست زبونًا لكن ليس إلي هذا الحد.

وفي النهاية حمدت الله علي أنني لم أكن مع أسرتي.. بالتأكيد كنت سأفقد طفلاً أو اثنين داخل القطار أو تحته.. لكني قررت أن وقت الفعل الإيجابي قد حان.. إن لم يكن الآن فمتى وإن لم يكن أنا فمن؟ هرعت إلى مكتب ناظر المحطة وطلبت تقديم شكوى ضد سائق القطار 922 الذي غادر محطة طنطا الساعة الخامسة والربع مساء يوم 29 يوليو 2009.. أريد أن يعاقب بقسوة وأن يدفع ثمن الوقت والمخاطرة وخيبة الأمل.. هنا وجدت مظاهرة صغيرة من الركاب الذين عجزوا عن الركوب، منهم سيدة وقور غاضبة فعلاً لعبت دور alpha mom بمعنى أنها صارت قائدة الثورة، وانطلقنا في وصلة سباب عالية الصوت للهيئة والسائق وكل شيء. اتهمت السائق بأنه يتعاطى مخدرًا ما ومن الواجب الكشف عليه.. يمكنني أن أتخيله.. اسمه (سيد حبارة) أو (سيد جرادة) طبعًا، وهو يضع على رأسه الطاقية البيضاء من الحجاز إياها والسيجارة خلف أذنه، ويضحك مستمتعًا بدعابته الثقيلة معنا مع الكثير من الهع هع هع.

ناولنا معاون المحطة وريقة مصفرة لنكتب عليها ما نريد ونوقع جميعًا. فبينما أنا أكتب شكوى حارة ساخنة ظهر شاب في حالة كاملة من اللوعة وانفلات الأعصاب، ليعلن أن عنده امتحانًا في القاهرة في تمام السابعة.. الأسوأ أنه دفع 800 دولار ثمنًا لدخول هذا الامتحان! كان في حالة لا توصف حتى إنه عجز عن تذكر طريقة كتابة اسمه، بينما ناظر المحطة ينظر لنا في زهد وتسليم، ويؤكد لنا أن هناك قطارًا آخر في السادسة والنصف.. أي أنه بالتوفيق سيصل القاهرة في الثامنة لو تمكننا من ركوبه طبعًا.. والتذاكر؟
«لا يمكن رد قيمة التذاكر.. هذا ليس ضمن سلطتي!»

وأدركت من لهجته أن شيئًا لن يحدث.. لن يمس السائق المجنون بسوء. هذه الورقة ستلقى في القمامة غالبًا.

نظرت للشاب الذي خسر 800 دولار مع قيمة التذكرة كذلك، وبدت لي مشكلتي مرفهة مترفة فعلاً.. كيف شعر المسكين بينما هو يدرك أن القطار يتحرك فعلاً حاملاً مستقبله معه، وعرف أنه ليس زبونًا؟ نصحته بأن يجد سيارة تقله للقاهرة بسرعة خلال ساعة ونصف، لكنه قال وهو يجفف عرقه:
«أعصابي باظت خلاص»

طال الجدل ونظرت لساعتي فوجدتها تقترب من السادسة.. لقد صرت في مأزق ويجب أن أجد وسيلة مواصلات فورًا.. هكذا تركت الجدل والشجار القائم، ودعوت الله أن ينتقم هذا الشاب المكلوم لنا.. طبعًا كان موعد الأتوبيس أن يتحرك السادسة، لكن قصة طويلة جعلته يتحرك في السابعة إلا الربع.. لا مجال للتفاصيل هنا لأن هذا موضوع آخر ولأنني لست زبونًا. في النهاية وصلت لمكان الندوة متأخرًا نصف ساعة وهو إنجاز عبقري.. لا تنس أنك لست زبونًا وأن مهمة الحياة ليست تدليلك وإشعارك بالسعادة.. من حسن الطالع أنك سليم لم تفقد ابنًا ولم تسقط تحت القطار.. هذا نصر مؤزر بلا شك. لكن السؤال الذي ظل يلح عليَّ هو: ما الخطأ الذي ارتكبته؟ هل الخطأ هو أنني موجود في مصر؟ هل الخطأ هو أنني موجود أصلاً؟ هل كان عليَّ أن أبيت ليلي أمام السفارة الكندية بعد التخرج مباشرة بحثًا عن الهجرة لدولة تعاملني كزبون؟!