قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, November 26, 2019

جامع الأحلام

من كتاب "شاي بالنعناع"


عرفت هذا الرجل منذ أعوام.. قابلته في الدقي.

منذ زمن عرفت أن أنماط البشر معدودة يمكن أن تصنف كل واحد منهم فى قائمة.. مثلًا هناك قائمة (الترافولتيات) التي تضم كل شاب رياضي طويل القامة مهذب خجول قليلًا، له ضحكة لطيفة تبدأ من العينين، وهذه القائمة تضم بالتأكيد جون ترافولتا والخطيب وإيمان البحر درويش وصديقى أستاذ طب العيون.

هناك مثلًا قائمة الدريات، وهي تضم درية شرف الدين وسحر رامى وآلى ماكجرو.. هناك قائمة الشارونيات وتضم كل حلوف بري متضخم البطن شديد الفظاظة، وبالطبع تضم الجنرال شارون مع آخرين لن أذكرهم تفاديًا لمقاضاتي.. أنا نفسى أنتمى لذات القائمة التى ينتمى لها محمود محيى الدين وزير الاستثمار فى العهد السابق، وعندما أرى صورته فى جريدة أشعر بحالة انعدام وزن للحظة. وكان الأستاذ الرائع أحمد رجب يقول إنهم يستوقفونه فى كل المطارات لأنهم يشتبهون به.. عرف فيما بعد أنه يشبه جدًا أحد زعماء المافيا الأقوياء.

عندما قابلت الأستاذ عارف وجدت أنه لا ينتمى لأى قائمة عرفتها.. لا أذكر أننى عرفت هذا النمط من قبل.. نظارة.. نظرة كئيبة مرهقة.. شعر مجعد شاب نصفه.. فى الخمسين من عمره.. متزوج لكنك لا تشعر بتاتًا بذلك ولا يتكلم عن أسرته أبدًا.

كان يحضر دورات فى اللغة الروسية فى أحد المراكز هناك.. وكان يجيد قول (داسفيدانيا) و(سباسيبا) كالعادة، ويتكلم بلا توقف عن تشيكوف وماكسيم جوركي.

عند لقائنا الثانى اكتشفت أنه يحضر دورات فى اللغة الألمانية فى مركز آخر.. ألا ترى إنك تبالغ قليلًا يا أستاذ عارف؟

قال لي فى حماس:
- "اللغات مهمة جدًا.. تعمق خبراتك بالحياة وتجعلك تفهم العالم"

لكنه ظل لغزًا بالنسبة لي.. هل عمله يجعله يقابل الكثير من الأجانب مثلًا؟ هل هو كثير الأسفار؟ عرفت فيما بعد أنه موظف في السجل المدني في درجة إدارية لا تبشر بالكثير.. هناك وظيفة لا مستقبل لها اسمها (المساعد الاعتباري) فى الأدب الروسي، وهي الوظيفة التى ينتمى إليها أي بطل يريد المؤلف ألا يكون له وزن ولا أهمية.. لنقل إن الأستاذ عارف هذا كان أقرب إلى المساعد الاعتباري.

إذن هو لا يؤدي وظيفة تتطلب هذا العلم باللغات.

بعد هذا وجدت أنه يقترض كتبًا عن البلدان من المكتبة العامة، ويعد دراسات مطولة عن بلدان بعينها مثل السويد وألمانيا.. إلخ.. سألته عن سبب هذا الحماس، فقال لى إنه يحب أن يعرف كل شيء عن البلد قبل أن يزوره.. إن الأسفار توسع مداركك وتجعلك تعرف العالم أكثر.. المهم أن تعرف أين تذهب ومن تقابل ومتى..
كان الأمر يتجاوز الهواية.. هناك كمية معلومات غير عادية لديه بدءًا بأفضل المطاعم التي يمكن شراء الأكل الحلال منها، وطريقة تبديل العملة، وأماكن العثور على أرخص عروض التسوق.. إلخ.. إلخ.

هنا دليل مفصل لمن يرغب فى زيارة البلدة.

كنت أتفحص دليلًا من هذا الطراز فى ذهول.. صور ومعلومات وفهارس وأرقام هاتف.. كان يتكلم عن باريس بدقة مروعة، فقال لى صاحبنا:
- "العرب لا يهوون السفر.. منذ أيام الرحالة العظام من طراز ابن بطوطة وسواه، صار العرب أكثر ميلًا للاستقرار فى مكان واحد.. ويمكنك بسهولة أن تدرك أنهم تدهوروا منذ فقدوا غريزة السفر"

قلت له:
- "لكنك تجد العرب فى كل مكان من العالم اليوم"
- "أنت تتحدث عن العرب الذين يذهبون إلى باريس مثلًا، فلا يرون أى شىء من باريس.. يتسوقون في الشانزليزيه طيلة اليوم ثم يهرعون إلى الفندق ليلقوا بحقائب مشترواتهم، ثم يهرعون من جديد لشراء المزيد.. ثم يخبرهم أحدهم بأن هناك متاجر رخيصة اسمها (الاينلت) فيهرعون إلى هناك. عندما لا يبقى من الوقت إلا يوم، يجرون ليلتقطوا صورًا لهم بسرعة أمام قوس النصر وبرج إيفل ليثبتوا أن ما اشتروه كان من هناك.. هؤلاء لم يروا باريس وكان بوسعهم أن يحققوا نفس النتيجة لو زاروا أى مول فاخر فى بلادهم"

قلت له:
- "أنت خبير في باريس فعلًا"
قال في ثقة:
- "طبعًا.. صحيح أنني لم أرها قط، لكن عندما أذهب هناك ستكون المهمة سهلة"

كان يزداد خبرة وعمقًا.. كما أنه كان يقابل العائدين ويصغي لهم باهتمام. وكم من مرة قال لي:
- "أنت لا تعيش حقًا.. كل من لا يسافر ولا يرى العالم هو جثة تتحرك لا أكثر"

الحقيقة أنني كنت أمقت السفر.. يبدو أن جدي كان من تلك الأشجار التي تولد وتشيخ وتموت فى ذات المكان. عندما أنتوي السفر لمكان ما أصير عصبيًا جدًا ولا أنام جيدًا وأتشاجر بسهولة كأنني ذاهب إلى العالم الآخر لا إلى بلد آخر.. يتساوى الأمر سواء كنت ذاهبًا إلى السنطة أو تفهنا العزب أو النرويج.. فإذا جاءت ليلة السفر خيل لك إنها ليلة إعدامي، مع كل هذه العصبية وضيق الخلق.

يبدو أن أبي يرحمه الله هو الذي أعطاني هذا الطبع.. كان يقول لى إن كل الأماكن تستوي فيما بينها، وأنه يمكن أن أقوم بتغيير لافتة (طنطا) بلافتة أخرى تقول (كوبنهاجن) لأكون هناك بلا مجهود.. طبعًا ليس هذا الكلام صحيحًا لكننى أعتنقه إلى حد ما.

الأستاذ عارف كان يختلف بخبراته المذهلة فى البلدان.

كان يعرف كيف يصل لمتحف مدام توسو في لندن، وبالطبع يعرف كيف يزور المتحف البريطاني.. هو لا يحب حي سوهو بشكل خاص لنفس الأسباب التى يمقت من أجلها شارع بيجال في باريس وباتايا في تايلاند.. هو لا يحب بائعات الهوى.. كان قادرًا على زيارة مسجد آيا صوفيا فى اسطنبول ويعرفه شبرًا شبرًا.. مساجد تركيا رائعة الجمال فعلًا:
- "لا تنس أن لمسات المصريين الفنية هى التى صنعت هذا كله.. لقد سرقوا الصناع المهرة معهم إلى الآستانة"

أعتقد أنه قضى وقتًا طويلًا على ضفاف البحر الأسود، وجرب كثيرًا صيد سمك الحفش.. فتح السمكة ورأى كيف يتراص الكافيار بالداخل.. لكنه بالطبع لا يتذوقه.. إن طعمه شديد (الزفارة) ولابد أن يعالج صناعيًا أولًا قبل أن يؤكل.. سمك الحفش يصنع دخل إيران وروسيا.

كان يسعل كثيرًا فى الأسبوع الماضي بسبب استنشاق فضلات الخفافيش فى كهوف أمريكا الجنوبية.. عندما تدخل الكهف دون حذر فإنك تستنشق فطر (هستوبلازما) الذى يدمر الرئتين تدميرًا. عرضت عليه أن أعطيه بعض حقن أمفوتريسين لعلاج داء الهستوبلازما، ثم تذكرت أن هذا كله خيال في خيال.

إن شمس منتصف الليل مرهقة للعينين فعلًا، لذا تؤلمه عينيه مؤخرًا.. الأسوأ هو أن تمشى لساعات وسط الثلوج فى ألاسكا لأنك تصاب بعمى الثلوج.. عندما سكنت في شقتي الجديدة قبل أن أقوم بتأثيثها، كانت كل الجدران بيضاء.. أصابني نوع من العته من السير وسط هذا الفراغ الأبيض وشعرت بأن الضباب يغزو كل شيء ويتسرب لعقلي.

هناك مشكلة أخرى هى أن تدبر الطعام لكلاب الهسكي الجوعى التي تجر زحافتك على الثلج.. أنت تعرف أن هذه الكلاب تأكل نفس الكميات التي يأكلها شخص بالغ.

عندما تذهب إلى نيوزيلاند فعليك أن تعرف عادات قبائل الماوري.. اللحم المشوي تحت التراب.. الهاكا التي يرقصونها قبل مباريات الرجبي. مخيفة جدًا على فكرة.

من الممتع أن تجرب رحلات الخلاء وأنت في الجزيرة العربية.. البحث عن الكمأة ثم العثور على الضب وشيه.. سوف تعتاد منظره ومذاقه بعد قليل.. إن لحمه لذيذ فعلًا.

جاءت اللحظة التى سألته فيها عن البلاد التى رآها.. لابد أنه زار بلدًا أو اثنين.. على الأقل كل مصري أعرفه رأى العراق أو ليبيا أو دول الخليج، سواء بحكم العمل أو للقيام بالحج والعمرة في المملكة العربية السعودية.

هنا جاءت آخر إجابة أتوقعها:
- "أنا لم أغادر مصر قط! لم أغادر القاهرة قط! كل هذه المعلومات أعرفها من الكتب"
قلت له وقد نفد صبرى فى النهاية:
- "أرى أنك أعددت نفسك كثيرًا جدًا جدًا.. ألا ترى أن الوقت قد حان للسفر لمكان ما؟"
نظر لي في عدم فهم فقلت:
- "كل المال لا قيمة له ما لم تنفقه.. وأنت تملك خبرات عظيمة"
فى النهاية قال لي في حزن:
- "أنا في الخامسة والخمسين من عمري، ولم يعد هناك وقت كاف لرؤية أى شىء أو السفر.. ليس عندي مال كاف للسياحة.. ثم أن الحقيقة التي أخفيها عن الجميع هي.. هي.."
وأشاح بوجهه فى خجل:
- "أنا أخاف ركوب الطائرات جدًا!"
ثم قال وهو يتنهد:
- "المطارات مكان مرعب.. تخيل نفسك فى مكان واسع ممتد تشعر فيه بالضياع.. الكل يجرى مذعورًا.. وفي كل لحظة يدوي من مكبر الصوت صوت مفعم بالصدى لا تفهم منه حرفًا واحدًا.. رسالة تتكرر بالعربية والإنجليزية والفرنسية وأنت لا تفهمها!"

يمكنني أن أفهم ما يعنيه، واسمه (أجورافوبيا).. وهو نوع مشهور من الذعر.. لكنني لن أذكر له اسم هذا المرض حتى لا يقع فى ذعر آخر اسمه (الذعر من الأسماء اللاتينية المعقدة).

هذه هي مأساة الإنسان على كل حال.. قد يقضي حياته في جمع المال ثم لا يجد الوقت كي ينفق مليمًا، أو ينفق المال على المستشفيات التي تعالجه من الفشل الكلوي أو السرطان.. قد يدخر العواطف وفي ذهنه أن يسكبها عند قدمي امرأة يمنحها كل شيء.. في كل مرة يتضح أن المرأة لا تستحق أو هي المرأة الخطأ أو لا يقابلها أبدًا.

هنا يقوم صاحبى بجمع الخبرات فى حماسة.. وهو لن يستعملها أبدًا.. لا وقت ولا شجاعة ليستعملها.. أن تجمع المعلومات عن البلدان وأنت لا تنوي ركوب الطائرة أبدًا هو نوع من العبث.

هنا لاحظت ملامحه بعناية.. لم يخطر ببالي أنه ينتمي فعلًا لنمط من الأشخاص والوجوه.. هذا النمط هو نمطي أنا.. هذه ملامحي أنا.. نمط جامعي الأحلام الذين لا يظفرون بأحلامهم لأنهم يخشون المخاطرة أو يمقتونها.. لهذا يقضون وقتهم في كتابة الكتب عن أحلامهم تلك.

اتصلت بصديقي بعد أيام لأخبره أن عليه أن يستجمع شجاعته ويذهب لمكان ما قبل أن يموت. عرفت أن كلامي أثر فيه كثيرًا لهذا ذهب يجرب الأسفار.. هناك قرية صغيرة اسمها (كفر الشحاتين) جوار القاهرة، وقد ذهب هناك ليجرب خبراته بضعة أيام. صحيح أنه لن يجد برج إيفل ولا قوس نصر ولا شلالات نياجرا، لكنه على الأقل سيشعر بأنه مسافر لمكان ما!

من يدري؟ ربما أحزم حقيبتي وألحق به هناك لأمضي أيامًا في السياحة.. فلا حياة من دون مخاطرة.