قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, August 25, 2010

لا تصطادوا أبدًا


مات الرجل العظيم نورمان بورلوج في سبتمبر عام 2009 دون أن ننتفع بعلمه الغزير. الرجل الذي يعتبرونه أهم عالم في التاريخ، والذي يقال إنه أنقذ حياة بليون من البشر.. نعم.. الرقم صحيح.. بليون بالباء ولو كان بالميم لكفاه ذلك فخرًا

لا أحد يعرف نورمان بورلوج سوى قلة من المتخصصين، وحتي أنا كاتب هذا المقال عرفته منذ أربعة أعوام فقط، عندما تكلموا عنه في برنامج تليفزيوني أمريكي، فلا تحسب أنني ولدت عارفًا به. الرجل الذي يطلقون عليه (أبو الثورة الخضراء).. الرجل الذي حصد جائزة نوبل عام 1970 مع حشد من الجوائز العالمية التي تحتاج مقالاً خاصاً لذكرها، ومنها أرفع وسام هندي

الرجل باحث في الجينات.. وقد استطاع أن يطور سلالات جديدة من القمح عالي الإنتاجية مقاوم للأمراض، وقد قدم علمه هذا هدية للمكسيك وباكستان والهند والصين. صارت المكسيك مصدرة للقمح، بينما تضاعف إنتاج الهند وباكستان. نعم.. تضاعف


بداية مشوار الرجل كانت في المكسيك بتنسيق بين وزارة الزراعة المكسيكية ومؤسسة روكفلر، وقد عكف المشروع علي دراسة التطوير الجيني للنباتات مع دراسات في الحشرات والتربة وكيفية مقاومة صدأ القمح.. لم تكن أيام الرجل هناك نزهة فالكل متشكك (سمعة مؤسسة روكفلر سيئة علي كل حال) ولا يوجد فنيون مدربون، لكنه تحمل ذلك، شاعرًا في كل لحظة أنه ارتكب خطأ عمره.. مع الوقت بدأت النتائج تتضح، واستطاع أن يعزل جينات مقاومة صدأ القمح، وأن يأتي بسلالات جديدة تقاوم جميعها المرض. بعد هذا أدخل جينات التقزم من نوع قمح ياباني.. القمح المتقزم يعطي حبات أكثر ويقاوم بشكل أفضل. وفي العام 1963 صارت المكسيك كلها تزرع النوع الجديد المسمي (بيتيك 62)، وتحصل علي ستة أضعاف ما كانت تحصل عليه

في العام 1963 استدعته حكومة الهند لزرع هذا النوع من القمح هناك. كانت الهند في حرب مع باكستان كالعادة، وكلا البلدين في ورطة تصل إلي درجة المجاعة. وكان الخبراء يؤكدون أن الأمر منته بالنسبة للهند.. لن تستطيع أبدًا أن تطعم هذه الأعداد الغفيرة. عمل بورلوج في ظروف شديدة القسوة، وكانت البذور لا تصل أو تحتجز عند الحدود حتي تتلف، مع الجهل الذي دفع الحكومة المكسيكية لرش البذور بالمبيدات مما قلل من إنتاجيتها، كما كانت طلقات المدافع تطير فوق رأسه.. لكن النتائج كانت واضحة وسرعان ما تضاعف إنتاج باكستان والهند من القمح بقدوم العام 1965

كان هناك الكثير من المدافعين عن البيئة يعارضون الرجل، وهم يؤكدون أن العبث في الجينات يؤدي لكارثة.. في الحقيقة لم يستخدم الرجل الهندسة الجينية، لكنه استخدم قوانين الوراثة ببراعة وحصافة. أي أنه استخدم ما كان الإنسان يفعله منذ عصور غابرة قبل أن يولد مصطلح (علم الزراعة). وقد تعامل مع ناقديه بنوع من الاستخفاف قائلاً: «من السهل أن تتكلم عن ترك الطبيعة تتصرف عندما لا تكون جائعًا، وعندما تجلس في مكتبك المريح المكيف في واشنطن أو بروكسل»ـ

كان من الصعب عليه دخول أفريقيا بسبب جماعات الضغط التي راحت تحث مجموعة روكفلر علي عدم تمويله، وفي النهاية بدأت جهوده تثمر ببطء شديد في بلدان عدة مثل بوركينا فاسو وغانا وموزامبيق ونيجيريا.. المشكلة في البلدان الأفريقية هي اضطرابات السياسة ومشاكل نظم الري. لا تسألني لماذا لا تتضمن القائمة مصر، لأن لدينا من يكفينا من العباقرة فلا حاجة لنا برجل مثل هذا.. لا مزاح هنا.. إن لدينا عباقرة حقيقيين، لكن أحدًا لا يصغي لهم

لم يكتف الرجل بما حققه من مجد، ويبدو أن عفريت مالتوس -نبي الانفجار السكاني- كان يطارده بإلحاح طيلة حياته، لهذا أنشأ جائزة مالية لأفضل البحوث الزراعية. وكان يقول دومًا: «علينا أن نضاعف إنتاج العالم من الطعام قبل عام 2050». حتي في أيامه الأخيرة ظل يحاول أن يفهم لماذا يهاجم صدأ القمح كل الحبوب ما عدا الأرز؟.. ما الذي يمنح الأرز هذه المناعة الخاصة؟

مات الرجل عن 95 عامًا فودعه الساسة من كل أقطار الأرض، باعتباره الرجل الذي أنقذ حياة ما لا يقل عن بليون شخص عبر أرجاء الأرض

تذكرت هذا الرجل وأنا أقرأ نتيجة حرائق الغابات في روسيا. أوكرانيا تخفض صادراتها من الحبوب إلي النصف، في حين لا تزال مصر وهي أكبر مشتر للقمح في العالم، والتي تعتمد علي منطقة البحر الأسود لتدبير 63% من قمحها، تسعي لاستيراد ستة ملايين طن. يقول وزير التجارة المصري رشيد محمد رشيد إن مصر قد تستأنف استيراد القمح من الأرجنتين بعد توقف دام عدة سنوات، وذلك لتعويض أثر الحظر الروسي، كما أنه يراجع تفاصيل التعاقد مع الحكومة الروسية قبل قرار خفض التصدير. ويقول إن مخزون مصر من القمح يكفي لأربعة أشهر

دائمًا مشكلة القمح ومنذ كنت في المدرسة الابتدائية.. خطر القمح.. خطر القمح.. سلاح الضغط الدائم علي مصر والبعبع الذي يخبئونه لوقت الحاجة. تأمل هذه الأرقام المخيفة: «يبلغ معدل استهلاك الفرد في مصر 140 كيلو جرامًا سنوياً، مما حدا بالحكومة إلي زيادة الدعم المخصص لرغيف الخبز من تسعة مليارات جنيه إلي 16 مليار جنيه، ثم إلي 21 مليار جنيه العام الحالي، في الوقت الذي تعتمد فيه البلاد علي استيراد 40 في المائة من غذائها، ونحو 60 في المائة من احتياجاتها من القمح». «الأزمة الراهنة رفعت بقوة فاتورة استيراد القمح، حيث ارتفعت مدفوعات واردات القمح من 208.8 مليون دولار في الربع الأول من السنة المالية 2009ـ2010 إلي 404.3 في الربع الثاني، إلي 406.9 في الربع الثالث حسب نشرة البنك المركزي المصري. هذه البيانات تعني بوضوح أن الخبز الذي يستهلكه 90% من السكان هو في خطر حقيقي، وأن التقارير التي تتحدث عن احتمال نشوب اضطرابات اجتماعية لا تحمل أي مبالغات»ـ

تقول الإيكونوميست في مقالها الرهيب: «إذا وافقنا علي التفسير القدري للأزمات، يجب أن يحظى النظام المصري بالكثير من سوء الطالع ليمكنه الجمع بين أزمات القمح واشتعال أسعار السلع الأساسية وتهديد مياه النيل وتفشي التهاب الكبد وانقطاع التيار الكهربائي وأزمة المرور وحوادث القطارات إلي آخر مسلسل الأزمات التي أصبح من الصعب إحصاؤها». لكن الجريدة ترى أن سوء الطالع ليس المسئول ولكنه انعدام التخطيط.. يصعب القول إن أزمات القمح عارضة بل هي قديمة وتعرفها الحكومات المصرية جيدًا، وأول انتفاضة شعبية عرفتها مصر كان اسمها (مظاهرات الخبز). الحكومة تعد بأن الرغيف المدعم لن يرتفع سعره وستتحمل هي الفارق.. ومن أين ستتحمله؟.. من أموال المعاشات أم عن طريق ضرائب جديدة؟.. سياسة (من دقنه وافتله) هذه لم تعد تناسب العصر ولا أي عصر.. الجزار الذي يقطع أصابعه ليكمل الميزان

السؤال هو: ألم تستطع الحكومات المتعاقبة أن تحل هذه المشكلة؟.. ولماذا لم تستقدم خبيرًا من وزن بورلوج ليضع سياسة ناجحة؟. لقد لجأت له دول عظيمة مثل الهند وباكستان واستعانت الصين بخبراته، فلماذا لم نفعل نحن شيئًا مماثلاً؟. لن يعترض أحد لو نال هذا الخبير الأرقام التي ينالها أي مدرب كرة أجنبي.. لكن من يقرأ ومن يسمع؟.. لقد فهم المصري العادي الحقيقة منذ زمن بعيد، وهي أن المشكلة هي انعدام الإرادة وليست انعدام الأفكار. فهم أن من مهام الحكومة الأساسية ألا تصير مصر بلدًا مكتفيًا في زراعة القمح أبدًا. أي أن اعتمادنا علي الغرب في الحصول علي رغيف الخبز هدف رئيس لكل الحكومات المتعاقبة. ولعل هذه أنجح وأكفأ مهمة قامت بها الحكومات في تاريخها.. لا تصطادوا أبدًا بل اشتروا السمك الذي تريدونه.. البحر خطر والزفارة كريهة الرائحة وغضبة الصياد قاسية.. لكن إلي متى؟