قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, May 16, 2016

كارثة الربيع


شم النسيم .. العام 1976 ..

الشارع لم يستيقظ بالكامل بعد، لكنك ترى في أماكن معينة زحام الفتية الذين جاءوا من القرى المجاورة لطنطا للنزهة بثيابهم فاقعة الألوان التي تحطم الأعصاب تحطيمًا، وترى محلات الأزهار قد فتحت أبوابها وعلى الأبواب يقف العامل يرش الأزهار برشاش الماء، وقد أعد باقات صغيرة رخيصة الثمن تناسب العشاق المفلسين. أنت متجه إلى درس اللغة العربية الخصوصي (وهو الدرس الوحيد الذي أخذته في حياتي) لأن المعلم أصر على أن يحضر الطلبة يوم شم النسيم، فامتحان الإعدادية على الأبواب ولا وقت لهذه (المسخرة) ..

محلات عصير القصب وباعة الملانة كلهم قد قاموا بتشغيل ذلك الاختراع الجديد: الكاسيت، فتسمع صوت عبد الحليم حافظ يغني قارئة الفنجان. اسمعها هنا.. تسمع مقطع (بحياتك يا ولدي امرأة).. وهو مقطع لا تعرفه ولم تقرأه قط في قصيدة نزار المكتوبة التي كنت تحفظها حفظًا. فيما بعد عرفت أنه مقطع كتبه نزار خصيصًا للأغنية بناء على طلب حليم وأملاه عليه في الهاتف. الأغنية ما زالت ساخنة طازجة لأن عبد الحليم غناها مساء أمس لأول مرة. ظللت تجلس أمام التلفزيون ليلاً بانتظار سماع الأغنية، لكن المواعيد في مصر كلها تتأخر ثلاث ساعات، وعندما ظهر عبد الحليم يرحمه الله ظل يتكلم عن الأغنية وصعوبتها كثيرًا جدًا، ثم شخط في الجمهور الذي يحدث ضوضاء.. و.. كان عصبيًا وقد افترسته الصحافة فيما بعد، والحقيقة أن المرض جعل تحمله للفوضى صفرًا.. شاهد كيف يشخط في الجمهور عند 2:18. في النهاية غلبك النوم فلم تسمع أي مقطع من الأغنية. الآن يمكنك سماعها..


كانت ليلة شم النسيم منافسة دائمة بين عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش.. فريد الذي خلد الربيع بأغنيته الشهيرة الرائعة عن الفصول، وبشكل ما صارت هذه الأغنية هي ما يستجلب الربيع. هي صوت الربيع إذا تكلم، بنفس الطريقة التي تشعر فيها بأن أغنية (رمضان جانا) هي صوت رمضان. هناك أغنية أخرى كارثية هي أغنية شادية (الشمس بانت من بعيد)، التي تشاهدها هنا، ولسبب ما لم تكن تذاع إلا في الربيع، لكن فيها مشكلة خطيرة هي أنها أغنية امتحانات تشعرك بضيق الوقت، وبأن اليوم - يوم المقصلة - قد لاح في الأفق. لفترة كانت هذه الأغنية تسبب تقلصًا في أحشائي، وما زلت أتوتر حتى اليوم لدى سماعها برغم روعتها.

هكذا أمشي في الشارع وقد تضخمت الرومانسية عندي. ما أجمل أن توجد وتحتل المكان والزمان. ما أجمل أن يكون هناك غد...

الربيع في مصر فصل قاس فعلاً، فهو يعني عودة الذباب والبعوض وأتربة الخماسين والرمد الحبيبي.. بالتأكيد فصل الخريف أجمل بكثير، لكن هناك ذلك الجو الهرموني العام الناجم عن رائحة أزهار البرتقال والحقول المحروثة وحبوب اللقاح. كما يقول كرستوفر مارلو: "يدوي الكون بصيحة فرح: إنني أحيا!".

المشكلة أن هذا ألعن وقت ممكن لقصص الحب. في مقال ساخر لمارك توين مصر محمد عفيفي يقول (وأنا أعتمد على الذاكرة) إنه كان يقضي الربيع في هذا الجو الهرموني اللعين، فيقف في النافذة ويكتشف أن بنت الجيران (حلوة قوي)، من ثم يلعب ردفيه مغنيًا أغنية عبد الوهاب الجديدة وقتها: "محلاه يا وعدي .. محلاه يا وعدي"، توطئة لأن تنهال صفعة أبيه على قفاه مع أشهر وأقدم نصيحة تربوية (عيب يا ولد!). يحاول الاستذكار لكن يستحيل أن تركز وسط عيد الطبيعة هذا.. كان وأخواتها يتحولن إلى مجموعة حسناوات جالسات حوله في ثياب لا يمكن أن يرضى عنها مدرس اللغة العربية، فإذا حاول دراسة الجيولوجي تحولت طبقات البازلت والصخور النارية والصخور المتحولة إلى طبقات دانتيلا وساتان وحرير.. وطبعًا أنت درست الجيولوجيا وسمعت عن عوامل التعرية!!


نفس الشيء وصفه العبقري صلاح جاهين ببراعة في أغنيته:

ابريل ومايو ويونيو .. موسم الامتحانات
ليه بتحلوي يا دنيا .. في الوقت ده بالذات؟
ليه يا قلوبنا بدأتوا.. في الحب ودقدقتوا؟
يا ربيع هو ده وقته؟ .. ده احنا ورا شهادات
يا ربيع اضبط مواعيدك .. بقى وتعال في وقت سليم
ما هوكده لا حننفع في المعشقة .. ولا ننفع ف التعليم
وما حينوبناش غير المهزأه .. كلنا صبيان وبنات!

وهي الأغنية التي قام عبقري آخر هو الملحن (الطنطاوي أصلاُ) هاني شنودة بتلحينها، وقدمتها فرقة المصريين. استمع لها هنا.


هذه هي المشكلة: انفجار عواطف في مارس وإبريل يؤدي إلى أن ترسب في يونيو وتعيد الامتحان في سبتمبر!.

لكن الحياة مستمرة.. أتجه لدرس اللغة العربية وقلبي يتواثب. كانت هناك فتاة واحدة في مجموعة الدرس ضمن مجموعة من الذكور (الخناشير) الذين تجلب سحناتهم الفقر والأوبئة. كانت رقيقة جدًا كأنها فراشة – وهي مصادفة غريبة – ولهذا قررت أن أهيم بها حبًا.. بالطبع لم يكن حبًا بل هو حب الحب.. الحاجة إلى تركيب عواطفك على أي واحدة تصلح، وفيما بعد عرفت أنها فتاة أحلام أربعة فتية على الأقل. من أجلها كتبت أول قصيدة في حياتي:

يوم حبي ... يوم بثت لي الحياة صفاءها
يوم عرفت جميلتي .. أحببتها .......... إلخ ..

وهي قصيدة بدائية عبيطة لكن كل حرف منها كان يزن طنًا من العواطف التي يمكن أن تثقب الورق، وما زلت أقشعر عند سماعها.

رسمت لوحة جميلة لها وهي تجلس جلستها المميزة خلف باب شقة الأستاذ، وقد تقاطعت قدماها الصغيرتان ورفعت عينيها في اهتمام تتابع ما يقال. ما زالت عندي على فكرة!. كان المعلم محنكًا، لذا كان يتأكد من أنها انصرفت قبلنا بعشر دقائق على الأقل قبل أن يسمح لنا بالانصراف. هناك حشد من الأوغاد الذين يعبث الربيع بهرموناتهم، ولن يتركوا فراشة آدمية كهذه في حالها. نخرج من بعدها نرمق الشارع الخالي ونتبادل السباب، ويشعل المدخنون سجائرهم بعيدًا عن رقابة الأهل.

رحل عبد الحليم وفريد الأطرش وصلاح جاهين ومحمد عفيفي ومدرس اللغة العربية، وتفككت فرقة المصريين. وشخت أنا. أما زالت هي حية؟ إنها في الرابعة والخمسين اليوم، ولربما هي مديرة مدرسة أو وكيلة وزارة ضخمة مرعبة يخرج الشرر من عينيها. لقد انتهى الربيع وجاء الصيف فالخريف... والشتاء قريب جدًا، لكن هناك أجيالاً تجرب كارثة الربيع لأول مرة