قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, December 5, 2011

خواطر انتخابية



لملم جارى فى صلاة الجمعة أطراف جلبابه الممزق، وراح يتحسس بأنامله الشقوق العميقة فى كعب رجله.. ضم التلفيعة حول رأسه وتصعب. لا يجب أن تكون طبيبا لتدرك أنه مصاب بمرض عضال.. ربما هو الدرن أو السرطان. عن يمينى جلس رجل آخر يتمايل يمينا ويسارا وهو ينصت للخطبة.. جو عام من الفقر والبؤس واليأس يخيّم على المكان، حتى قلت لنفسى إن هذا المشهد وحده كفيل بمحاكمة مبارك. يحمد المرء الله على كونه لا يملك أى منصب تنفيذى، فما كنت لأتحمل فكرة أن أكون مسؤولا عن معاناة هؤلاء

بدأ الإمام يخطب.. وكانت خطبته غريبة جدا.. قال بالحرف إنه لا بد من أن يتم انتخاب الإسلاميين والسلفيين فى المرحلة القادمة، ولا بديلا عنهم، لأنهم ينفذون شرع الله، بينما الآخرون ينفذون شرع الشيطان أو القوانين العلمانية التى وضعها الغربيون

قال بالحرف إن الرزق آت لا محالة، ولسوف يصير كيلو اللحم بعشرة جنيهات، ويصير المسكن والعمل مكفولين للجميع، لكن فقط انتخبوا الإسلاميين وجربوا شرع الله ولو مرة.. ولعدة مرات تكرر الخلط المعتاد بين الإسلام والإسلاميين

راح جارى يمصمص شفتيه مؤيدا.. وكذا فعل جارى الآخر

بدا لى الأمر غير عادل ولا يخضع لمبدأ تكافؤ الفرص. إن استخدام الدعاية الدينية سلاح ماض لا يعطى فرصة للآخرين أبدا، فلا أحد يمكن أن يقرر انتخاب قائمة العلمانيين أو الشيطانيين.. دعك بالطبع من مخاطبة جمهور تحت خط الفقر، بمصطلحات دينية تعده بأن ينال كل ما حُرم منه لو أنه انتخب فلانا

لا أحد يجرؤ على مغادرة المسجد فى أثناء صلاة الجمعة. لا أحد يدخل فى جدل مع الإمام. أعداد الموجودين فى صلاة الجمعة هائلة، وقد جاء هؤلاء للصلاة لا لسماع برنامجك الانتخابى، لكنك قدمت لهم برنامجا انتخابيا يتنكر فى ثوب خطبة الجمعة.. قوة الإمام وبلاغته تنهال على خصم ضعيف مصاب بالدرن لا يستطيع الوقوف على قدميه.. لن يفكر دقيقتين، ولا شك أن كل من غادر المسجد يومها كان يعرف من سيختاره دون كلام كثير. فهل تملك الأطراف الليبرالية أو العلمانية فرصا مماثلة؟ هل يستطيع البرادعى أن يدعو للدولة المدنية فى صلاة الجمعة؟

هذه هى المشكلة، ولهذا تخشى الأطراف الليبرالية والعلمانية الإسلاميين.. تخشاهم لدرجة العصبية أحيانا، ولسان حالهم يقول: مرحبا بالديمقراطية إلا إذا كانت ستأتى بالإسلاميين.. عندئذ فلتذهب إلى الجحيم. بالطبع لا يستطيع المرء قول هذا، ومرحبا بالإسلاميين إذا جاؤوا عن طريق انتخابات حرة شفافة، لكن المرء يتمنى أن يمارسوا لعبة السياسة بقوانين عادلة

هذه الطريقة الخطرة فى الوصول إلى الحكم، يؤمن كثيرون أنها ستستخدم فى البقاء فى الحكم يوما ما: هل تنتخب قائمة الكفار العلمانيين أم المؤمنين الأطهار؟ وبعد فترة: هل تريد انتخابات على طريقة الغرب أم خلافة مثل أيام الإسلام الأولى الناصعة؟

ما زال الوقت مبكرا على القلق على كل حال، وبصراحة أنا زهقت من سياسة التشكيك والتشاؤم من كل شىء.. لقد فهم الإسلاميون الشارع وخاطبوه، بينما الليبراليون والعلمانيون غرقوا فى جدل لا ينتهى حول صلاحيات مجلس الشعب والدستور أولا والبرلمان فى فنلندا والفارق بينه والبرلمان فى رواندا. كل واحد يقود مظاهرته الخاصة وجريدته الخاصة

دعك من الانزلاق إلى فخ رفض كل شىء وإدمان الثورة فى حد ذاتها. أفهم أن تشتعل الثورة من جديد مع كل هؤلاء القتلى والعيون المفقوءة والعنف مع المتظاهرين، لكن لماذا يتم رفض الجنزورى من قبل أن يبدأ، ولوزارة مؤقتة؟ ولماذا يفكرون فى حرق البرادعى ليلعب دور رئيس الوزراء لفترة محدودة يتلقى خلالها الشتائم، وبعدها يتوارى عن الساحة للأبد؟ هل هذه خدمة له فعلا؟

أمامى وأنا أكتب هذه السطور كتاب «أنا والجنزورى»، الذى كتبه عادل حمودة عام 1999، وهو كتاب مخصص لتصفية الحسابات مع الرجل بعد مشكلة «روز اليوسف»، التى تم انتزاعها من يد أفضل رئيس تحرير عرفته. الكتاب كما قلت مخصص لتصفية الحسابات، لكنه لم ينل من ذمة الرجل المالية لحظة.. لم يتهمه بفضائح أو استغلال نفوذ أو أى شىء مخز، وإنما قال إنه ديكتاتور وحريص على تركيز المناصب فى يده، وإنه يضيع جهده فى حفظ الأرقام ويهتم بالتفاصيل أكثر من اللازم.. هل هذه عيوب تستحق التظاهر وكل هذا الرفض؟ هل لأنه مسن؟ هذا بالطبع باعتبار البرادعى أصبى منه بكثير. أما عن علاقته بالنظام السابق فهى سيئة جدا كما يعرف الجميع

أرجوكم أن تتركوا العجلة تدور وتتحرك.. لا يمكن كلما أوشكت على الدوران أن يحشر فيها أحدهم عصا لمجرد اتخاذ موقف ثورى يرفع السقف أكثر. لقد بدأت العجلة تتحرك مع الانتخابات، وهى انتخابات نرحب بها مهما كانت النتائج، ما دام التزوير لم يدخل من الباب. أرجو كذلك أن نكف عن التهليل المعتاد كلما فعلنا شيئا ناجحا: انتخابات تدل على معدن الشعب المصرى.. العالم منبهر.. العالم جالس على الباب يتعلم منا.. إلخ. تكرار أبدى للصورة الملفقة التى أظهرت (مبارك) فى البيت الأبيض يتقدم أوباما إلى قاعة المحادثات

أرجو أن نتعلم ذلك الفن القديم: فن المداراة على شمعتنا لتشتعل، وأن نكف عن التهليل كلما أنجزنا شيئا منذ هز هدف مجدى عبد الغنى شباك المنتخب الهولندى. وفى كل مرة نكتشف أننا احتفلنا مبكرا جدا وأننا كان يجب أن نكون أكثر حذرا

آخر شىء ينبغى قوله هنا هو أن الأمن استتب فجأة والبلطجية تابوا ودفنوا السنج.. ما السبب؟ لا يمكن أن يكون السبب هو حماس الناس للعملية الانتخابية فقط، أو لأن الشعب صار متحضرا فجأة. السبب على الأرجح أن مراد بيه المتوارى فى مكان ما، ضغط على الزر لتصير الانتخابات آمنة.. أو ربما أخذه الله فلم يستطع أن يفسد هذه الانتخابات

حفظ الله صندوق الاقتراع.. صندوق الاقتراع الذى صار هو سفينة النجاة الوحيدة لمصر وسط هذا المحيط الهادر