أكتب هذه الكلمات، بينما التليفزيون يخبرنى بأن المصابين نتيجة المواجهات فى القاهرة يوم الجمعة قد تجاوزوا 130 مصابًا. حسب الأخبار هناك من أطلق الرصاص على المتظاهرين فى جمعة تطهير القضاء. المرء يتمنى أن تستمر مظاهرة واحدة سلمية حتى النهاية. مظاهراتنا السلمية دامية جدًا، حتى أن المرء يرتجف خوفًا من المظاهرات التى يقررون أنها غير سلمية من البداية
مشكلة هذا الوضع دائم التأزم هو أن ثورة سوريا والأحداث المروعة فيها نالت منا اهتمامًا أقل مما يجب بكثير، سواء على مستوى المشاركة الشعبية أو الإعلام. وقد اعتدت أن يقول لى أصدقائى السوريون: «الله يعينكوا على اللى انتو فيه». هذا يذكرنى بأيام الانتفاضة الأخيرة فى فلسطين عندما خرجت الجماهير المصرية الغاضبة تؤيد الشعب الفلسطينى، ونقلت قناة الجزيرة صورًا للشرطة المصرية وهى تصفع رجلاً مسنًا وتضرب امرأة.. قال أحد قادة الانتفاضة الفلسطينية: «الحقيقة أن الجماهير الفلسطينية يجب أن تخرج فى مظاهرات من أجل ما يمر به الشعب المصرى من عذاب !»ـ
تعثر الثورة المصرية قد أخر ثورات أخرى عديدة فى المنطقة بالتأكيد، ولعل هذا هدف فى حد ذاته. وقد خطر لى أن الشعب السورى يمر بهذا المخاض العنيف كى يصير فى النهاية مثلنا الآن !.. هذا شيء غير مغر على الإطلاق. لكن خطابات تصلنى من سوريا تخبرنى طيلة الوقت أننا فى وضع مترف بالنسبة لما يعانيه هؤلاء الأشقاء
هذا خطاب من أحد سكان حلب - المحامى علاء السيد - يخاطب فيه السوريين الموجودين خارج سوريا، وهو واقعى جدًا إذ يقول إن الثورة معاناة وألم وليست مجرد شعارات تكتبها على الكمبيوتر وأنت فى غرفة مكيفة.. اقرأ العبارات بتركيز وتخيل نفسك فى هذا الوضع:ـ
ـ« أعزائى.. أطلب منكم بكل محبة أن تجربوا بعضاً من الأمور التالية، قبل أن تكتبوا أو تعلقوا على ما نكتب، لكى تكون كلماتكم ملامسة جزئياً لواقعنا:ـ
جربوا أن تُنزلوا قاطع الكهرباء فى بيوتكم ليلاً لمدة عشر ساعات فقط لا غير، لا لأيام طويلة كما يحدث عندنا، ولا تخرجوا يومها من البيت، وابقوا مع أطفالكم منتظرين على أضواء الشموع، شغلوا تسجيلاً لصوت انفجارات صواريخ وقذائف وطلقات رصاص تدوى حولكم، متخيلين أن يكون إحداها فى بيتكم فى كل لحظة
جربوا أن تضعوا أهم مقتنياتكم فى شنطة صغيرة، تضعونها دوماً خلف الباب، مقتنعين دوماً أنه سيأتى يوم تخرجون هاربين من بيوتكم، وربما لا يتسنى لكم اصطحاب هذه الشنطة، لتفقدوا كل شيء حينها
جربوا أن تمثلوا تمثيلية صغيرة، تجمعون فيها أطفالكم برعب وتهرعون عند الفجر بالملابس التى عليكم فقط، لتبيتوا ليلة واحدة فى العراء، وحاولوا أن تتخيلوا فى هذه الليلة أنكم فقدتم كل شيء، ولن تستطيعوا العودة بعدها لبيوتكم
جربوا أن تتخيلوا أن باب البيت تحطم وفتح على مصراعيه، ودخل منه مجموعة أشرار مدججين بالأسلحة والقنابل اليدوية، يرغدون ويزبدون، محطمين كل ما يقع تحت أياديهم، طالبين رجل البيت الذى يفكر لأجزاء من الثانية هل يهرب ويترك زوجته وأطفاله تحت رحمة هؤلاء، أم يستسلم لهم، ليلقى مصيراً مجهولاً ومعلومًا فى الوقت ذاته
جربوا أن تقطعوا المياه عن بيتكم لمدة يوم واحد فقط، وأن تراقبوا الخزان المنزلى عشرات المرات يومها هلعين من أن تفرغ مياهه، وعندما تفرغ جربوا أن تحملوا وعاءً بلاستيكياً يتسع لعدة ليترات، وتخرجوا فى الشوارع بحثاً عن طريقة لملئه، فلا تجدون
جربوا أن تركنوا سيارتكم فى أى مكان، وتنزلوا منها لمشوار بسيط، وتنظروا إليها مودعين، وأنتم مقتنعون تماماً أن الإمكانية الغالبة هى عدم رؤيتها عندما تعودون، وإن جرى ذلك، يهنئكم من حولكم بالسلامة لأن السيارة خطفت وأنتم لستم بداخلها، وفى اليوم التالى تشاهدون سيارتكم يقودوها أشرار لا تجرؤون حتى على النظر إليهم
ليجرب أصدقائى الأطباء منكم أن يجروا فحصاً أو عملية جراحية، بإمكانيات طبية معدومة، وهم طوال الوقت ينظرون لسقف الغرفة بترقب متوقعين أن ينهار عليهم نتيجة انفجار قذيفة ما
لتجرب الأمهات منكم أن يودّعن أطفالهن يومياً وهم ذاهبون للمدرسة، هذا مع العلم أن أغلب الأطفال لم تفتتح مدارسهم إلا من أسعفه الحظ، وتنظرن إليهم نظرة أمل بأن يسلمهم الله ويرجعوا سالمين، مع قناعة داخلية بأن ضرراً كبيراً من الممكن أن يصيبهم، بالخطف أو بالموت برصاصة طائشة أو قذيفة أو بجريمة متعمدة، حمى الله جميع الأطفال
جربوا أن يتوقف دخلكم المادى تماماً لشهور طويلة، وأن تستنفذوا مدخراتكم الهزيلة، وأن تصطدموا أمام واقع أنه لا يوجد فرصة عمل من أى نوع، وبالتالى لا دخل مادى، وتقفوا عاجزين أمام جوع أطفالكم
جربوا تمثيلية صغيرة أن تتعرض زوجة لحالة ولادة، أو طفل لحالة ألم شديد ليلا ً، ولا توجد أية وسيلة اتصال بأى طبيب، هذا إن وجد طبيب باق فى البلد أصلاً، وأن تحملوا المريض المتألم وهو بحالة خطرة، فى الظلام الدامس، فى طرقات لا يسير فيها حتى الأشباح، باحثين عن أى مشفى لم يغلق أبوابه منذ زمن أو معونة طبية لا تجدونها، ويعترضكم فى الطريق مجموعة من الحواجز يشهر أصحابها أسلحتهم عليكم، مفتشين السيارة بشك وريبة وببطء مميت، لتعودوا بعدها خائبين دون إيجاد أى مساعدة، وتنظروا بصمت وبلا حيلة لمن تحبون، يتألم ويصرخ دون أن تستطيعوا أن تقدموا له نفعاً
جربوا أن تتخيلوا أنكم دخلتم إلى أى سوبر ماركت، لتشاهدوا منتجات غذائية وغيرها بماركات لا يعلم بها إلا الله، وبدون أى تاريخ صلاحية أو رقابة صحية، لشركات أقل ما يطلق عليها شركات الحروب والأزمة، وبأسعار تزيد عشر مرات عن أسعار المنتجات المعروفة المأمونة، ولا خيار أمامكم إلا شراءها لإطعامها لأطفالكم آملين أن لا تسبب لهم التسمم
أنا أعلم علم اليقين أنكم لن تجربوا أياً مما ذكرت، لأنه مما لا يطيقه بشرُ ليوم واحد
و لكن نحن نعيشه فعلياً منذ شهور طويلة
نتمنى أن لا يجلس البعض منكم منتظراً استقرار الأمور، لينزل من سلم الطائرة بالطقم والكرافتة والشنطة السمسونايت ليقبل أرض الوطن، مطالباً بحصته بما تبقى من الكعكة المنهكة، هذا إن تبقى شيء، وفقاً لنضاله الطويل عبر التعليقات والبوستات النارية الفيسبوكية، وبحفنة الدولارات التى تبرع بها لأعمال الإغاثة خلال حفلة باربكيو مقامة على أرض حديقة من النجيل الأخضر، وأعود وأنوه أننى قلت البعض منكم
أتمنى ممن يخطط لذلك أن يصل للوطن أبكر من ذلك بقليل، ليجرب على أرض الواقع لا بالخيال ما هو الثمن الذى يدفعه من هم بالداخل، غير طامعين بأى مكسب إلا النجاة بحياة أطفالهم لا بحياتهم
و باقون لن نغادر، وبدون شكوى أو اعتراض على ما قسمه الله لنا وقدره علينا، آملين بالنصر
رفقاً بنا أحبتى.... فلو جربتم بالخيال فقط بعضاً مما ذكرته أعلاه لعذرتمونا.. رجاء أخير.. لا تعلقوا على هذا البوست كالعادة: عمن هو المسؤول عن ذلك، وتتهاتروا، فالمسؤول معروف، والجدل فى هذا الموضوع عقيم»ـ
للحديث بقية طبعًا، لكن أرجو إلى أن نلتقى ثانية أن تساعد الشعب السورى بطريقة من عشرات الطرق الموجودة على شبكة الإنترنت، أو ترسل رسالة فارغة إلى اتحاد الأطباء العرب على رقم 9596، لتتبرع بخمسة جنيهات وهذا أضعف الإيمان