شجرة الصفصاف شهدت على قصة الحب الوليدة.. نقش قلب لا بد حُفر بسكين، ولا بد أنه وجد من قبل الكون. جاتيس والعزف على الهارمونيكا.. الليل الزاحف على الغابة، ولكنها تعرف أنها معه. يكتب الحب كلماته الأولى على العشب
جاتيس يطمئن على بذرة الحب الأولى.. يسقيها بكلمات ليست كأي كلمات.. هل أنت ساحر؟ من أين تأتي بعبارات كهذه؟ عبارات تشعرها بأنها ملكة وملاك في آن. ثم هاتان العينان.. اللعنة على هاتين العينين.. إنهما قادرتان على غزو قارات كاملة.. قادرتان على غزو الصين.. قادرتان على ترويض الذئاب في التايجا.. فكيف لا تقدران على قلب امرأة غض؟
زوزانكا صاحبة العينين العميقتين
زوزانكا ذات القدمين الدقيقتين
وجاء اليوم الذي رأت فيه زوزانكا الفتى وقبعته في يده.. يقف على بابها ويبتسم لأمها في خجل. يقول إنه لا يقدر على العيش من غير زوزانكا.. إنه يريد الزواج
معه كانت أمه فانيا ترتدي ما خيّل لها أنه ثياب أنيقة.. النتيجة أنها بدت كساحرة شريرة في قصة أطفال
كانت زوزانكا تعرف رأي أمها مقدما وتعرف أنها لن توافق؛ لا أحد يرتاح لآل بولوديس في ضاحية لاتجاليا كلها. لكن ما حدث كان شبيها بالمعجزات.. كأنها عصا الساحر
كانت جلسة طويلة في دارها. وتناولوا الكعك والنبيذ، وفي النهاية أدركت بمعجزة أن أمها موافقة على الزواج.. صحيح أنها لا تقدر على الاستغناء عن زوزانكا لكن هذه سُنّة الحياة.. والعريس لا يطلب دوطة.. لا يريد سوى زوزانكا. سوف تقيم الفتاة في بيت الأسرة
كانت زوزانكا تتوقع أن يسبب هذا مشكلات مع خالها وعمها اللذين جاءا ليحضرا المفاوضات، لكن لم يبد أن هذا يسبّب لهما مشكلة.. كأن الغيوم انشقت وجاء الأمر العلوي: زوزانكا لجاتيس.. فليوافق الجميع
النشوة في عين جاتيس.. الرضا في عين أمه
تقول فانيا وهي تلتهم بعض الكعك:ـ
ـ لم أفكر قط في تزويجه، لكن الفتى صار مجنونا.. لا يريد سوى الزواج من زوزانكا
لا تدري إلا وقد أقيم حفل زفاف بسيط في المرج الخلفي للكنيسة، وقد حضر عدد محدود من القوم لأن أحدا لا يحب هذه الأسرة.. من جاء جاء ليأكل
على منضدة جلس هيلموتس بولوديس يقطع فخذا من اللحم بالسكين، وهو مقطب كعادته.. هذا الرجل لا يضحك أبدا كما تعرف.. لم يهنّئ العروس ولم يقل لها شيئا
فقط عندما لم يكن هناك من ينظر إليها، دنا منها القس وقال همسا:ـ
ـ أتمنى لكِ زيجة سعيدة.. لكن أرجو أن تكوني حذرة
لم تفهم ما المقصود بالحذر، فقال:ـ
ـ لا تتدخلي في شيء.. لا تتدخلي فيما لا يعنيك.. الزوجة الفضولية مكروهة في كل الأوساط الاجتماعية. وأنتِ ستقيمين معهم في دارهم.. الحقيقة أن لنا جميعا أسئلتنا حول هذه الأسرة.. لا نعرف من أين يكسبون.. لماذا يعتزلون المجتمعات؟ قصة ذلك العم الذي تحركت قدمه إلى ركن التابوت. بالطبع لن أثير ذعرك لكنهم كذلك لا يذهبون للكنيسة أبدا.. إن غير المتدينين في كل مكان. لكني لا أثق بهم كما تعلمين
هي سمعت كل كلمة لكنها لم تصغ.. أنت تعرف الفارق بين الإصغاء والسماع، كما كانوا يعلموننا في المدرسة
وهكذا دخلت زوزانكا بيت آل بولوديس
*******
الأشخاص الذين يختفون هم من ضواحٍ بعيدة جدا. لم يكن أحد يعرف عنهم الكثير وبدا الكلام عنهم غامضا متحذلقا.. عندما تختفي فتاة شابة حسناء فأنت تفكر أولا في الهروب.. هربت مع حبيب. عندما يختفي سكّير مسنّ فأنت تفكر في النهر.. هناك من يسقطون في النهر ولا يظهرون ثانية أبدا
لم تهتم زوزانكا كثيرا بهذه القصص
كانت غارقة في الحب وفي السعادة مع هذا الفتى الوسيم الظريف الذي صار لها
كان رقيقا وكان ودودا.. لكنها ظلت تشعر بأنها لم تخترق عالمه بعد.. هناك منطقة محرّمة لم تستطع أن تجتازها.. وظلت تتساءل عما يوجد خلف هذه المنطقة
كانت لهما غرفة صغيرة في ركن الدار تطل على الفناء الخلفي حيث يمرح الدجاج والخنازير، وقد حرصت على أن تزيّن النافذة بالأزهار وتضع ورقا ملونا مزركشا قامت بقصّه.. المحاولة غير المكلفة لجعل الحياة أجمل
كانت تخرج لتقف في الفناء الخلفي تداعب الدجاج أو تعابث قطة يتصادف أنها هناك.. بينما يطل جاتيس من النافذة الصغيرة عليها وقد أراح ذقنه على ساعديه القويين
بعد لحظات تلحق بها ناتاليا وهي تحمل المزيد من طعام الدجاج.. ناتاليا جميلة جدا لكنها منغلقة. هل تحمل شيئا من الحسد لأنه لا يوجد عرسان يطلبون يدها على الإطلاق؟! لديها نادٍ من المعجبين لكن لا يوجد خُطّاب
حموها ليس ودودا ولا تراه تقريبا إلا وقت الغذاء.. نفس الكلام ينطبق على ألكسيس الأخ الأكبر.. إنه قريب جدا من أبيه ولهما نفس الطباع الذئبية المتفردة
كانت تعرف يقينا أن أرتور وألكيسيس يخرجان ليلا
كانت تقف في الفناء ذات مرة والظلام دامس فاستطاعت أن ترى الأخوين ينسلان خارج البيت.. ثم أدركت أن هذا يتكرر كل ليلة.. إلى أين؟ لو كانا يلهوان ويعبثان لعرفت، ثم إن المرء لا يعربد بصحبة أخيه.. على قدر علمي أنا، لم يفعل أحد هذا سوى ياسين وكمال بطلي ثلاثية نجيب محفوظ
لم تر أحدا يصلي في البيت، لكن هناك غرفة صغيرة بها ما يشبه المحراب، وفيها صليب.. أغرب صليب رأته في حياتها لأنه أقرب إلى حرف
T
المقلوب.. لا تذكر كذلك أنها رأت من يصلي في هذا المحراب الضيق
T
المقلوب.. لا تذكر كذلك أنها رأت من يصلي في هذا المحراب الضيق
كانت تعرف كذلك أن هناك قبوًا.. هناك باب خشبي مغلق على الدوام، وعليه قفل غليظ.. لكنها تعرف أن حماها يهبط في هذا القبو كثيرا
خطر لها أن الأسرة تصنع النبيذ، فلا بد أن الأب العجوز يقطر الخمور هناك.. لا بد أن المشهد عبارة عن براميل عملاقة على الجانبين.. لا بد من فئران كذلك
هناك ملاحظة أخرى غريبة.. هذه الأسرة لا تستعمل الثوم أبدا. هناك وصفات طعام لاتفية كثيرة تعتمد على الثوم بشدة لكنهم لا يستعملونه أبدا، ويقال إنهم مصابون بحساسية بالغة نحوه
في الحقيقة كانت حياتها على ما يرام.. لا علاقة لها سوى بزوجها الحبيب.. ولا أحد يضايقها من الأسرة
ما كان أغناها عن محاولة الفهم! ما كان أغناها عن محاولة التسلل للقبو! لكنك تعرف متلازمة الضحية الغبية التي تميز أفلام الرعب
كان لا بد أن تفعل ذلك بعد حادث الفجر، وما رأته عندما عاد أرتور وألكيسيس
.......
يُتبع