كل عام وأنت بخير. فى هذا الوقت منذ عام كنا نتكلم عن مشكلة السولار والكهرباء وكتبت أصف انتظارى عدة ساعات تحت الشمس الحارقة بانتظار وضع بنزين للسيارة، فقط لأجد أن البنزين انتهى قبل أن تدنو لحظة الوصال. وكتبت عن انقطاع الكهرباء الذى بلغ فى الغربية معدلات فلكية وقتها (ست مرات يوميًا والمرة ساعتان فى المتوسط). كتبت عن هذا منذ عام. واليوم ما زال كل شيء كما هو. نحن فى مايو والوقت مبكر جدًا، لكن مهرجان انقطاع الكهرباء قد بدأ بحماس. اليوم الجمعة انقطع التيار الكهربى ثمانى ساعات عن نصف المدينة. بالتأكيد فشلت الحكومة وفشل مرسى فى التغلب على هذه المشكلة على مدى عام كامل، والنفوس تغلى بسبب الغيظ وبسبب الحر. يقول صديقى المتحمس لأحمد شفيق: «وجهة نظرى الشخصية أن شفيقاً - مهما كان سيئًا - لم يكن ليقطع عنك الكهرباء ست ساعات يومياً فى عز جهنم الصيف». بينما طفلة فى الثانية عشرة من عمرها توصلت وحدها ودون مساعدة فلولية إلى أن تقول وهى تجفف عرقها: «كانت أيام حسنى مبارك أحسن.. صحيح كان بيسرق بس كانت فيه كهربا»ـ
لماذا كانت هنا كهرباء فى عهد مبارك؟.. مستحيل أن تكون المحطات قد انهارت بهذه السرعة. ولماذا توقف انقطاع التيار الكهربى عندما رحل المشير وسامى عنان؟.. ولماذا عاد اليوم؟.. كنت فى محل لبيع مولدات الكهرباء أمس ورأيت كيف تباع المولدات كالخبز الساخن، لدرجة أن مواطنًا اشترى خمسة مولدات وضعها على سيارة ورحل !. يبدو أن اقتصاد الصين يعتمد بالكامل على دولة واحدة هى مصر. طبقًا للتفكير التآمرى الذى تعلمناه من عهد مبارك، هل انقطاع الكهرباء مؤامرة من رجال الأعمال الذين يقومون على استيراد هذه المولدات؟.. هذا اللوبى الافتراضى قد كسب عدة مليارات فى الأسبوع الماضى
أهدى للرئيس مرسى من جديد هذا المقال الذى كتبته منذ عام، باسم (الكهرباء يا ملك الزمان):ـ
ـ« فى القرن الماضى دارت المعركة الشهيرة بين العبقرى الأمريكى إديسون والعبقرى الصربى تسلا، حول الكهرباء وهل من الحكمة الاعتماد على التيار المتردد أم المستمر، مع حلم تسلا بأن يجعل الكهرباء فى الهواء كله كأنها موجات الراديو.. كهرباء بلا أسلاك متاحة للجميع. هذا امتداد لفكر تسلا الذى يعرف الفيزيائيون أنه أول من اخترع الريموت كونترول، لكنه منحوس فى كل شيء فعله، لهذا نُسب الاختراع العبقرى لآخرين. للأسف كان إديسون هو الأقوى والأقدر.. ولم يرق له قط أن ينافسه عالم مجهول من شرق أوروبا بدأ حياته بالعمل عنده. هكذا انتصرت أفكار إديسون فى النهاية. كان الرجلان يؤمنان أنهما على باب ثورة علمية بسبب الكهرباء.. الحقيقة أننا على أبواب ثورة هنا فى مصر فعلاً، لكنها ليست علمية
الكهرباء !.. قبس من علم الخالق منحه لنا؛ فأنار عقولنا وأفكارنا وبيوتنا. فى الأساطير الإغريقية كان الآلهة شديدى البخل بعلمهم، لذا تركوا البشر فى الظلام والبرد، إلى أن قام برومثيوس بسرقة سر النار من الأوليمب وعلمه للبشر. هنا لم يسرق أحد شيئًا، ولكن الله منح الإنسان لمسة من علمه فاستطاع أن يكتشف الكهرباء.. لمسة العلم هذه أضاءت كل حارة وكل زقاق وعليها سهر التلاميذ ليلاً يدرسون، وبالكهرباء دخلوا شبكة الإنترنت يعرفون كل شيء عن العالم، وفتحوا أجهزة التلفزيون التى صارت نافذة كونية، بينما المراوح أو أجهزة التكييف تجعل حياتهم محتملة إن لم تكن جميلة، وعندما ضعف ضخ المياه تمكنوا من اختراع المضخة التى ترفع الماء بالكهرباء إلى بيوتهم. الكهرباء !... قبس من علم الخالق ومن رحمته.. وفجأة انتهى هذا كله !!!ـ
عندما تصير دولة كاملة بلا كهرباء فقد انتهى أمرها أو هى لم تعد دولة أصلاً
أقول هذا بعد ما عاد التيار الكهربى للحى بعد ساعات من الانقطاع. هنا وضع شبيه بالقبر بالضبط: لا ماء.. لا نور.. لا هواء.. لا ينقصنا سوى بعض الديدان وبكتريا الكلوستريديا المسؤولة عن تعفن الجثث كى يصير التطابق تامًا
انقطاع الكهرباء.. الضيف الجديد الذى جاء ليبقى ويزيد الحياة تعقيدًا، وهو يحدث ست مرات كل يوم.. سبعة أيام فى الأسبوع. ضمن مسلسل الانهيار السريع إلى قاع الهاوية الذى نمر به منذ أشهر.. كأن البلاد تخوض حربًا شعواء، وتنظر حولك فلا ترى حربًا
لم تعد مشكلة المرء الإعلان الدستورى ولا من يتولى أى وزارة.. مشكلتك ببساطة هى أن تجد بعض الماء عندما تدخل الحمام لأن مضخة الماء متوقفة بسبب الكهرباء، وأن يجد أطفالك نسمة هواء بدلاً من أن يموتوا.. وماذا عن الحضانات وأجهزة التنفس الصناعي؟
تمشى فى الشوارع المظلمة التى تحولت لشوارع أشباح، لترى الميكانيكية والصنايعية يجلسون ويدهم على الخد أمام محلاتهم. لا أحد يعمل.. البيع والشراء مستحيل.. كساد....ـ
بالطبع لم يعد أمام القادرين سوى شراء مولدات كهربية، لكنك سوف تكتشف وقتها أن هذه المولدات تعمل بالسولار أو بنزين 80 وهو غير موجود
من الواضح تمامًا أن الرئيس مرسى يتعرض لحرب بالغة الشراسة والقسوة، وهناك فيلم رأيته فى اليوتيوب يظهر انقطاع التيار الكهربى أثناء حلف اليمين الدستورى. أعتقد أن هذا الفيلم حقيقى فعلاً، وهو يمثل إهانة بالغة وصفعة للدولة ورئيسها. حكى لى أحد الدارسين بالخارج عن انقطاع الكهرباء الفجائى فى مؤتمر بالأسكندرية حضره مبارك مع بعض الدارسين، وأعتقد أن كل مسؤول عن هذا الانقطاع لم يحتفظ برأسه طويلاً
وهنا تأتى نقطة مهمة. يجب الاعتراف أن مرسى فشل فعلاً فى حل مشاكل الكهرباء والبنزين والقمامة وهو مسؤول تمامًا عن هذا الفشل. ليس الوقت مبكرًا لإصدار هذا الحكم القاسى. وبالتأكيد لم تخل الشوارع من القمامة يوم 27 كما وعد. الكهرباء ليست موضوعًا مترفًا أو يحتمل الانتظار.. سوف نصبر على البطالة والأمية والصحة والغلاء والثانوية العامة، لكن لا توجد دولة تعيش بلا كهرباء ولا بنزين
سواء كانت هناك عصابات تعمل فى الظلام لقطع الكهرباء وإعادة رمى الزبالة فى الشارع أم لا، فعمله هو القضاء عليها وفرض إرادته كاملة، وإن فشل فعليه أن يعلن أسباب فشله أو يرحل. أذكر أننى فى واحد من امتحانات الكلية الشفوية فشلت فى الإجابة عن سؤال، فاعتذرت للممتحن لأن الجيران يحدثون صخبًا منعنى من التركيز، ولأن حرارتى عالية، ولأن الكهرباء انقطعت أمس.. إلخ. قال لى فى برود: ما دمت أتيت للامتحان فأنت المسؤول الوحيد أمامى
هكذا فى ليلة سوداء من ضمن الليالى الرمضانية التى أحالوها سوادًا وعرقًا وعطشًا، اتصلت بالكهرباء لأشكو للمرة الألف.. صار من دأبهم أن يرفعوا الخط أو يعطلوه لكنهم فى هذه المرة ردوا. وسمعت صراخ الناس الغاضبين على الطرف الآخر، بينما الموظف يقسم لى أنهم لا يعرفون السبب وأن الكهرباء تنقطع عنهم من فوق.. جميل.. شبكة الكهرباء لا تعرف لماذا تنقطع الكهرباء. اتصلت بشرطة النجدة فأقسم لى الرجل أن الكهرباء منقطعة عن المحافظة نفسها ولا أحد يعرف السبب.. انقطاع الكهرباء صار لغزًا كونيًا بلا حل مثل السحابة السوداء أو موت عمر سليمان أو اختفاء رضا هلال أو فتح السجون فى الثورة
ثم راح الموظف يردد الأسطوانة القديمة: كان مبارك وعصابته يسرقوننا لكن كان فى زمنهم كهرباء وبنزين.. أى أنه لابد لى ومن تضرر معى أن نخرج الآن فى مظاهرة تطالب بإسقاط مرسى وتولية شفيق أو إخراج مبارك من السجن، وإلا فلنمت فى مكاننا
الكهرباء يا ملك الزمان.. كما فى مسرحية الأديب السورى العظيم سعد الله ونوس. ليس مرسى هو ملك مسرحية عبد الله ونوس بالتأكيد.. لكننا نطالبه بأن يتحرك بسرعة وحزم وقسوة، لأن البلاد تغلى فعلاً بسبب ثورة الكهرباء هذه.. إن مخطط إفشاله يسير بنجاح تام، وهو أحد المسؤولين عن ذلك بكل هذا البطء وكل هذا الصمت وهذا الغموض»ـ