قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Friday, August 2, 2013

دبّة النملة - 3



يمكنك أن تتخيل تعبير وجه شاكر عندما أخبرته بهذا الاقتراح
تصور هذا سهل على كل حال.. نحن لا نتحدث عن حاسة تُفقد أو قدرة تضيع.. نحن نتحدث عن طرف طار.. تمزق.. ذهب به نصل


المسكين
قال لي في أسى:ـ
ـ لقد انتهى زمن المعجزات.. أنا لا أفهم في الطب لكن ثق بأنني لن أحمل جثة مزقها القطار إلى عيادة طبيب
نظرت ليده المبتورة الملفوفة في الضمادات ثم قلت:ـ
ـ عدني بشيء.. أنا مخبول غير مستقر نفسيا.. اتفقنا؟
ـ أنت لست كذلك
ـ بل أنا مخبول من الطراز الذي يجري في الشوارع وكسرولة على رأسه.. اللعاب يسيل من فمه.. هذا المخبول لا يريد سوى شيء واحد هو أن تذهب لهذا الطبيب
ـ هذا مطلب عسير.. أنت تداعبني دعابة قاسية اسمها الأمل.. هذه الدعابة لن تفضي بي سوى لمزيد من الألم

كان إلحاحي شديدا.. وقد استطعت بالفعل أن أقنعه بأن يجرب
عرفت فيما بعد أنه ذهب هناك مع زوجته مها.. كانت مها مستعدة لتجربة أي شيء. لا بد أن هناك أعشابا صينية تعيد الأيدي المبتورة. لا بد أن هناك طريقة ما تعيد حياتها لما كانت.. تعيد البسمة لزوجها

وكما هي العادة قابل الطبيب الأرمني وكان نفس الانطباع وكانت ذات المحادثة... ثم وقّع على الورقة بيده السليمة وهو يكتم ضحكة ساخرة. هذا الرجل نصّاب بلا شك.. لكن الدفع سيكون بعد الشفاء طبعا.. لن تكون الخدعة قاتلة.. لن يسلبه شيئا سوى الأمل. لقد تغير الزمن كثيرا يا شاكر.. صاروا يسخرون منك، وصرت أنت كمّا مهملا.. لكنك تسخر منهم إذ تتظاهر بأنك تصدقهم
عاد إلى البيت وأعتقد أنه ازداد سوءا على الأقل من الناحية المعنوية

***

أنت تسجل كل شيء يا محمود.. أليس كذلك؟ تصور أنني أتذكر بعض التفاصيل التي نسيتها تماما.. الكلام يرغمك على ترتيب أفكارك

فعلا
أذكر كيف أمضيت أياما عدة لا أعرف شيئا عما حدث في هذه القصة.. اتصلت برامز عدة مرات، فكان يؤكد أن سمعه ممتاز لكن بصره كما هو

 أما عن شاكر فلم يكن هناك أي تطور في حالته

جاء اليوم الذي اتصل بي رامز فيه ليقول إنه فهم الخدعة الكامنة في العلاج الذي تلقاه.. هناك أثر جانبي واضح. وما هذا الأثر الجانبي يا ترى؟ هل فشل الكبد أم ارتفع ضغط الدم؟
ـ السمع صار حادا جدا.. فعلا يمكنني سماع الفئران وهي تتحرك في "المسقط" عند الجيران، ويمكنني سماع دقات قلب زوجتي وهي نائمة

هذا فقط؟ ابتسمت وقلت:ـ
ـ هذا عرض لا يخلو من الهستيريا.. أنت تعرف الهستيريين الذين يشكون دوما من صوت التنفس العالي لمن يجلسون قربهم
ـ "بيريجيب"ـ
قالها في ثقة ثم راح يفسر لي:ـ
ـ في الروسية معناها محاولة تقويم العصا المعدنية مما يثنيها للجهة الأخرى.. يبدو أنه بالغ في العلاج

استمعت له بنصف انتباه ونصف اهتمام.. لا أصدق أن يكون هناك شيء اسمه شفاء أكثر من اللازم.. هذه تبدو لي شكوى مترفة جدا. سألته بعدها:ـ
ـ هل دفعت أجرة؟
ـ بالطبع.. لقد قام بالاتفاق وأعاد لي سمعي.. سمعي يعني حياتي
ـ لكنك كفيف حسب ما فهمت.. لم يتغير شيء
ـ قلت لك إن أذني هي حياتي.. لو كنت رساما لكانت هذه قضيتي الأولى

بالطبع يا محمود لم أستطع أن أصدق كل شيء.. ثمة احتمال لا بأس به أن يكون الشفاء جاء بالصدفة. لو كان هذا الطبيب يعرف عمله حقا لشفي بصر رامز كذلك، خصوصا أن عندنا سابقة مهمة مع هاشم.. أعتقد أنه مجرد نصاب بارع حسن الحظ

كانت الأسئلة تملأ ذهني
في المدرسة رحت أراقب الصبية وهم يمارسون تمريناتهم الرياضية.. ويركضون حول الفناء. كم أن الإنسان رائع ومعجزة في الخلق

تتضافر الحواس والقدرات والعضلات والأعصاب لتصنع سيمفونية بالغة الإتقان.. سيمفونية أجمل ما فيها أنك لا تشعر بها.. فقط عندما يتلف شيء ندرك أي نعمة كنا فيها

قررت أن أزور هاشم هذه الليلة بالذات.. هل صار يبصر أكثر من اللازم؟ هل صار يرى أشخاصا ليسوا هنالك أو غير موجودين أصلا؟

***

ظللت أدق الباب عدة مرات بلا جدوى
أنا أعرف أنه متزوج ولديه طفل. فماذا حدث؟

واصلت الدق في عناد، وكان هذا حلا موفقا لأنه كما يبدو كان ينتظر أن يرحل هذا الفضولي السمج.. سمعت صوته الغليظ من وراء الباب يصيح:ـ
ـ ماذا تريد؟

أعلنت من أنا بصوت أقرب للتوسل.. فأبدى دهشته من قدومي. لم يبد ودودا على الإطلاق. ثم انفتح الباب
ـ ماذا أتى بك في هذه الساعة؟
قلت في حرج:ـ
ـ ظننت أن...ـ
ـ مرحبا بك بالتأكيد لكنني كنت أنتظر موعدا مسبقا
وسمح لي بدخول الشقة.. ظلام دامس تقريبا.. لا توجد سوى مصابيح خافتة مما نطلق عليه اسم  "وناسة"ـ


لا أرى شيئا تقريبا.. هناك رائحة كريهة فعلا.. هذا بيت لا ينظف ولا يحمل آثار لمسات الأنثى
قلت له وأنا أتحسس طريقي:ـ
ـ كيف حال المدام؟
قال ما توقعت أن يقوله:ـ
ـ أنا مطلق.. زوجتي لم تتحمل أن تعاني معي

لذت بالصمت.. هذا شيء قاس فعلا..  الزوجة رحلت بمجرد أن فقد زوجها بصره.. ليست الفارسة المناضلة التي يريد لها العالم أن تكون

وعلى كل حال لا يمكن أن ألوم أحدا قبل أن يختبر المرء نفسه..هناك أزواج طلقوا زوجاتهم لأنهن أصبن بسرطان واستأصلن جزءا من أنوثتهن

لكنني الآن أدرك أن حياة هاشم قاسية فعلا.. ألا توجد عاملة تعني بهذا البيت؟
ـ لقد أرسلت صديقي للدكتور الأرمني كما اقترحت أنت.. النتائج جيدة فعلا.. لكنه يشكو من آثار جانبية
ـ كنت أعرف أنه سيشفى.. وكنت أعرف أن آثارا جانبية ستحدث

اصطدمت بأريكة فجلست عليها بينما جاء هو بزجاجة مياه غازية من مكان ما.. كيف يرى في هذا الظلام الدامس؟ لقد شفي جدا بالتأكيد

شعرت بشيء يتهشم تحت قدمي  فنظرت.. الظلام دامس فلا أرى جيدا.. لكن هناك حاسة تقدير الأشياء التي تجعلك تخمن ما يوجد تحت قدمك

مددت يدي وتحسست.. بالفعل كما توقعت
إن صديقي هاشم يعيش حياة قذرة فعلا

.......

يُتبع