راح هاشم يتكلم وأنا شارد الذهن أفكر بعمق فيما وجدته. خطر لي نوع من الهاجس الذي لا يستند إلى أساس علمي أن عينيه تلمعان أكثر من اللازم.. ربما هما تضيئان
خطر لي هاجس أن عيني هاشم تلمعان أكثر من اللازم ـ (رسوم: فواز) ـ |
ماذا يحدث هنا بالضبط؟
كان ما لمسته وتهشم تحت قدمي هو عظام.. عظام حيوان أو طائر صغير، ويبدو من ملمسها أنها هنا منذ زمن سحيق. هناك كمية هائلة منها
ما معنى هذا؟ هاشم يعيش في هذا الوكر ولا يتخلص من بقايا طعامه. سمعت أن أمورا كهذه تصيب مرضى السكيزوفرنيا أو في حالات خرف الشيخوخة. المريض لا يدرك أنه يعيش في وكر قذر. عاداته تسوء مع الوقت وهو لا يدرك الانحدار الذي يهبط له.. وفي لحظة هو مجنون ناري النظرات منكوش الشعر يلبس الأسمال ويقف في زقاق خلفي يتسول، ومن حين لآخر يحك رأسه بسبب القمل
الحقيقة أنني راغب في الرحيل بالتأكيد.. لا أحب هذا الجو
هل جن هاشم لأنه استرد بصره فلم يتحمل هذا الانفعال؟ أم هذا أثر جانبي لعلاج الأرمني اللعين؟
لا أعرف متى وجدت هاشم يمسك بعلبة من الورق المقوّى يشرب محتواها بقشة شفاط.. أعرف منظر هذه العلبة ولونها..هذا لبن .. قدم لي المياه الغازية وراح يشرب اللبن
برررررر
من أين يأتي هذا القرير؟ هل هناك محرك سيارة يدور في الجوار؟ لماذا تلمع عيناك يا هاشم بهذا الشكل؟
قال هاشم وهو مستمر في الامتصاص:ـ
ـ أحيانا يكون علينا أن نتخذ قرارا عسيرا.. قرارا يغير حياتنا بالكامل.. لكن هناك متعة خاصة في الاستسلام. أن تقبل أن تكون ما يراد منك أن تكونه. أنت تعرف أن هناك نساء لا يعشقن سوى الرجل الفظ الذي يقهرهن قهرا.. هذا هو ما حدث معي تقريبا
كان ردي الوحيد والبسيط هو: لا أفهم.. هل هناك في حياته شخص يرغمه؟
بررررر! هذا غريب.. الصوت يصدر منه فعلا.. لا شك في هذا.. تأملت جسده الضخم المنحني في الظلام وشعره المنتفش.. تأملت عينيه اللتين تلمعان في الظلام؛ بدا لي غريبا فعلا
لقد حان وقت إنهاء هذه الجلسة.. أنا الآن أعرف أن العلاج فعّال جدا.. فعّال أكثر من اللازم لكنه كذلك يسبب غرابة الأطوار.. حان الوقت كي أزور صديقا آخر هو شاكر.. أريد أن أعرف أخبار العلاج الذي تلقاه
طبعا يصعب الاعتقاد أن العلاج كان ذا جدوى معه.. الأمل والألم.. هو تكلم عنهما معا.. لماذا لم ألحظ من قبل أن اللفظين يحملان ذات الحروف؟ ربما هناك لفظ ثالث كذلك هو المال.. نقص المال يسبب لك ألما.. لكن الأمل الذي يخيب يسبب لك ألما لا يوصف
طرقت الباب مرارا.. كان موعدا سخيفا يناسب ضيفا سمجا وقحا مثلي
فتحت لي زوجته مها الباب.. أعرف مها منذ زمن ولم أرها من قبل شاحبة متوترة بهذا الشكل. تأمل لون الصفحة لتأخذ فكرة عن لون وجهها
دعتني للداخل وقالت إنها ستنادي زوجها حالا.. سألتها عن نورا العزيزة الصغيرة، فقالت بلهجة غامضة:ـ
ـ نورا عند جدتها الآن.. لا تسأل عنها كثيرا
طلب مريب فعلا.. ابتلعت ريقي وسألتها عن شاكر.. ما أخبار معنوياته؟
قالت في ارتباك:ـ
ـ يتحسن. لا شك في هذا
في هذه اللحظة دخل شاكر الغرفة. فتح ذراعيه مرحّبا بي.. وعندما غبت في حضنه أدركت شيئا مرعبا: هناك يدان تحيطان بي! تراجعت للخلف ونظرت
بالتأكيد لست أحلم.. عند كم سترته رأيت يدا صغيرة مشوّهة.. ليست جميلة المنظر وهي مغطاة بحراشف ولونها برتقالي مقزز.. لكنها يد! أضف لهذا أن يده السليمة لم تكن جميلة المنظر كذلك
تراجعت للخلف مذهولا فقال وقد رأى نظرتي:ـ
ـ هذه يد حقيقية.. ليست صناعية.. طبيبك هذا كان عبقريا فعلا.. إن يدي تنمو.. أعتقد أن شكلها سيتحسّن مع الوقت
كنت أزداد رعبا.. رباه! الأمر لا يتم هكذا.. مستحيل أن يتم هكذا.. هذا كابوس
قالت مها في ارتباك إنها ستعد لنا بعض الشراب، فقال شاكر إنه سيفعل ذلك.. طلب منها أن تنصرف لأن بيننا الكثير من الكلام
عندما انصرفت وهي ترتجف، قال شاكر:ـ
ـ هي ما زالت مرتبكة متهيبة. المرء يخاف ما لم يعتده وأنا شيء غير معتاد. بيني وبينك لم أتوقع هذا الذي حدث قط.. العلاج فعّال بلا شك
قلت في ذهول:ـ
ـ نحن لا نتكلم عن علاج فعّال.. نتكلم عن معجزة تغير وجه الطب للأبد
نهض مسرعا إلى المطبخ، وظللت وحدي في الصالون أرمق الجدران مفكرا. لا يوجد أثر جانبي على قدر علمي.. هناك ذعر الزوجة وحيرتها لكن هذه ليست نهاية العالم. ما حدث هو معجزة بكل المقاييس.. حتى أعتى السحرة لم يستطيعوا إعادة طرف مبتور
سمعت صوتا غريبا من المطبخ.. كأن هناك من يقبّل خدا بصوت عالٍ مزعج
شعرت بقلق.. الزوجة ليست هنا. نهضت في حذر نحو ما أعتقد أنه المطبخ وألقيت نظرة. هناك براد شاي على النار. هناك منضدة في منتصف المكان. فوق المنضدة طبق به شيء أعتقد أنه ملح.. أما المشهد العجيب فهو مشهد شاكر وهو راكع على ركبتيه إلى جوار المنضدة وقد مد لسانه.. لسان طويل جدا يلعق به الملح في الطبق
تراجعت للخلف لأحبس صرخة هلع كادت تنطلق مني، وقفت بضع دقائق أشهق محاولا أن أستعيد تنفسي
محمود.. هل تسجل كل شيء؟ سوف أحذف هذا الجزء أو أغير الأسماء حتى لا أؤذي الزوجة. يصعب بعض الشيء أن نقول عن زوجة محترمة إن زوجها يلعق الملح في المطبخ
عدت في حذر ألقي نظرة على المطبخ عبر الباب. لم أر سوى الموقد والشاي عليه. أين شاكر؟
لسبب ما رفعت رأسي لأعلى وكان المشهد كافيا كي يتوقف قلبي للحظات.. كان شاكر يتشبث بالجدار قرب السقف ووجهه له وقد فتح ذراعيه. ثبت كفيه للجدار كأن لهما ممصات وكان يتحرك بسلاسة غير عادية
ثمة شيء مألوف في هذا
هل فهمت يا محمود؟ يلعق الملح ويمشي على الجدران؟ هذا سلوك وَزَغَة بُرص بلا شك.. صديقي قد تحول إلى بُرص آدمي عملاق
هل فهمت؟ الأمر واضح. كي يستعيد اليد التي فقدها، حوّله الطبيب الأرمني المجنون إلى بُرص.. رأيت فيلما شنيعا في "ناشونال جيوجرافيك" لقدم بُرص مبتورة تنمو وتتحول مع الوقت لقدم سليمة كاملة. هذا هو ما خطر للطبيب الأرمني
وماذا عن هاشم؟ الآن يمكنني الفهم.. يقر وهو يشرب اللبن ويلتهم حيوانات صغيرة -فئران على الأرجح- وعيناه مضيئتان.. إنه يتحول إلى قط.. هذه هي الطريقة المثلى كي يكتسب عيني القط ويبصر جيدا.. بل يبصر في الظلام كذلك
قفّ شعر رأسي.. قفّ كما هو منتصب الآن.. هات المزيد من الماء البارد.. أتناول معه قرصا من "الديازيبام" لكني مضطر لزيادة الجرعة يوما بعد يوم، سوف أتحول لمدمن قريبا جدا
أنت كذلك بدأت تتوتر
لم يبدأ المرح بعد.. ماذا لو حكيت لك عن اللحظة التي استدار فيها عنق شاكر ورأيته ينظر لي من وضعه المقلوب؟ لقد أدرك أنني فضحت سره
.......
يُتبع