قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, September 23, 2013

لهذا الحد؟



هل لهذا الحد صرنا قساة حقا؟

وما زال المصرى يتكلم عن أنه مسالم ودود. هذا الكلام ليس سياسة بل هو كلام فى صميم المجتمع المصرى نفسه.. المجتمع الذى زالت عنه طبقة الجلد فظهرت أعصابه الحية الملتهبة. هذه الأعصاب الملتهبة يمكن أن تفتك به لو لم نعالجها

شاهدت كما شاهد الجميع المشاهد المفجعة لاستشهاد اللواء نبيل فراج مساعد مدير أمن الجيزة أثناء اقتحام كرداسة. كانت الكاميرا جاهزة متوثبة والتقطت اللقطات بوضوح تام وقسوة بالغة لا ترحم، بينما ذلك المجند يصرخ فى الهاتف فى هستيريا ولوعة، ثم نقل الجثمان الدامى إلى مدرعة واقفة. إن أبا عمر وأحمد وزياد لن يعود لهم ثانية ولن يحضر زفاف أى منهم.. المهندسة نضال عفت لن ترى شريك عمرها ثانية

شعرت بقشعريرة.. هذا جندى باسل نبيل مات وسط رجاله.. بل هو أول واحد فيهم يلقى ربه.. بل هو الوحيد الذى استشهد فى ذلك اليوم الدامى، وتذكرت ما كانوا يقولونه عن ضباط حرب أكتوبر عندما صارت كلمة الضابط لجنوده هي: (اتبعوني) بعد ما كان يقول: (تقدموا)ـ

أول شيء كان ذلك التقرير المربك للطبيب الشرعى، الذى يؤكد أن الطلقة جاءت من الخلف ومن مسافة قريبة جدا. هكذا قرر المعلقون أن الشهيد قتل بنيران صديقة، وتحول الجميع إلى خبراء مقذوفات.. نفس ما حدث منذ أسابيع عندما رأينا بوضوح رجلا يحمل علما أبيض يتقدم نحو مدرعة، فأطلقت المدرعة الرصاص عليه بلا تردد.. مشهد واضح تماما، لكن المعلقين العباقرة راحوا يؤكدون أن الطلقة جاءت من الخلف !.. كل المصريين صاروا خبراء مقذوفات.. والأطراف تتبادل الأماكن بسرعة. قالوا كذلك إن المجند الذى يصرخ فى الهاتف هو الذى أطلق الرصاص، وقالوا إن اللواء كان يغرد فى سرب معارض لسياسات الداخلية لذا قررت التخلص منه (على طريقة اللواء البطران). نظريات ونظريات بلا دليل. كل هذا مفهوم لكن ما ضايقنى فى مواقع عدة هو نغمة التشفى. لو كنت تعتقد أننى أفترى فلتدخل يوتيوب أو أى موقع ينشر الخبر وتقرأ التعليقات. معظمها متعاطف أى نعم، لكن هناك تعليقات متشفية أو تقول إن الشهيد تلقى ما يستحق. ألا ترى التناقض فى كلامهم؟.. كيف تلقى ما يستحق، بينما هو معارض للداخلية وقد تخلصت منه لنزاهته؟. تشف.. هل صرنا بهذه القسوة فعلا؟ وإلى هذا الحد فقدنا آدميتنا؟. ومتى نفطن لما صرنا له؟

والآن جاء الجزء الثانى من مقالى الذى ينتقل للجهة الأخرى

جاءنى خطاب من المهندسة لمياء جمال صيام.. مهندسة تعيش فى كندا، وتقول إنها من قارئات قصصى.. أخوها الصغير كان كذلك من قارئى قصصى وقد تربى عليها.. خطابها قادر على التعبير عن معاناته وعذابه فى لحظاته الأخيرة. أخوها هو شريف جمال صيام.. هل تذكرت الاسم؟. بالطبع لا أقدر على التعبير عن الحادث كما أرادت، ولا أن أقول كلمات أكثر بلاغة من كلماتها.. فقط أحاول

تخيل معى الآن ذلك الشاب الهادئ الذى لا يمت بصلة للإخوان المسلمين.. بل هو يعارض سياساتهم، وكان من ثوار يناير.. يمكنك قراءة آرائه على فيس بوك لترى إن كان متطرفا إسلاميا أم هو مجرد شاب مرح مثل أخيك وابن خالتك. أعتقد انك رأيت مشاهد القبض عليه وقرأت مقال بلال فضل، ومقال الأستاذة نجلاء بدير المحزن القاسى. كلنا رأينا ذلك الفتى الوديع ذا التى شيرت الأزرق الواقع فى قبضة مجموعة من رجال الأمن الأشداء.. يقودونه وسط الضرب والإهانات إلى البوكس لأنهم وجدوه قرب رابعة. فجأة تتصاعد أفيشات أفلام بروس لى وجاكى شان إلى رأس أحدهم، فتأخذه الجلالة ويطير فى الهواء فى وضع استعراضى جدا، ليضرب هذا الفتى الأعزل المستسلم ويقذف به إلى الأرض. ما هى فكرته سوى التلذذ بالقسوة.. وتنفيذ وضع رياضى كان يتوق له منذ زمن؟.. الضحية البائسة التى لا تقاوم قد أوصلته لحالة من الشهوة السادية لا توصف. واحد مثل هذا الحيوان كان هو الذى قتل خالد سعيد وسيد بلال ضربا بلا جريرة. واحد مثل هذا الحيوان وجه ركلات وصفعات لطالبات الجامعة أيام مبارك. لابد أن هناك مخزونا هائلا منه فى الداخلية

لكن معاناة شريف كانت فى بدايتها.. لقد كان هذا هو الجزء الباسم الظريف من القصة

شريف تم حشره مع 45 واحدا فى عربة الترحيلات الضيقة. فى شهر أغسطس. وقد ذكر أحد شهود العيان أن باب السيارة ذا الضلفتين لم يمكن إغلاقه إلا بكبس وضغط أجساد السجناء !!. أوشك على الاختناق كلما تخيلت هذا المشهد، وأعرف أننى لن أعيش سوى ثلاث دقائق لو مررت بتجربة كهذه. تقول لمياء إن السيارة ظلت واقفة فى الشمس 10 ساعات فى الظهيرة تحت شمس أغسطس فى درجة حرارة 40 مئوية، بلا نافذة ولا مروحة. تقول لمياء: « عطشان..جعان.. مخنوق مش قادر حتى يحرك دراع لأنهم محشورين.. اللى جنبه ممكن يكون تبول عليه أو هو تبول على نفسه... موت بالبطيء..الأكسجين بيقل حبة حبة وهما بيقعوا واحد ورا التانى.. ياترى كانو بيفكروا بعض بالشهادة ولا ماكانوش قادرين يتكلموا عشان مفيهمش نفس..»ـ

لمياء تعذب نفسها بهذه الخواطر التى تتردد ليلا نهارا. ذكرنى كلامها بقصيدة أحمد فؤاد نجم عن احتضار جيفارا: « عينى عليه ساعة القضا ..  من غير رفاقه تودعه..يطلع أنينه للفضا.. يزعق ولا مين يسمعه.. يمكن صرخ من الألم .. من لسعة النار فى الحشا..يمكن ضحك أو ابتسم..  أو ارتعش أو انتشى»ـ

قالوا أولا أنه كان هناك هجوم من الإخوان لتهريب المساجين لكن القصة لم تصمد طويلا. بعدها قال الضباط إن هناك حالة هياج انتابت المساجين واحتجزوا ضابطا، فألقى الضباط بقنبلة غاز داخل السيارة، وقال شهود إن ضخ الغاز تم داخل السيارة عمدا.. يعنى نحن نرى إحدى تجارب الإعدام بالغاز فى ألمانيا النازية. كانت طريقة الإعدام بالغاز هى توصيل خرطوم بماسورة العادم وضخ الغاز فى السيارة المغلقة. لم تستعمل أفران الغاز المزودة بالزيكلون بى التى نراها فى الأفلام قط

تقول لى الأخت: «شريف كان سيكون سعيدا لو عرف أننا نتبادل الحديث.. كان يحب كتاباتك». من يدرى يا لمياء؟.. كل من استشهدوا منذ بدأت ثورة يناير هم شباب، وهم بالتالى أبنائى بشكل ما

الآن نطالب وزارة الداخلية بتحقيق شفاف واضح فى الحادثة. لو كان 30 يونيو موجة أخرى من ثورة يناير فعلا، فعلى الداخلية أن تثبت أنها تغيرت، وإلا فما حدث كان عملية استرداد لبطش الداخلية وسيطرتها مع انتقام مخيف من رموز يناير. لاحظ أننا نتكلم عن حادث أبى زعبل فقط هنا

هل تعتقد أن شريف استحق ما حدث له؟.. إذن أنت تغيرت فعلا كما قلت لك.. هل ستغضب؟.. هل ستبدأ فى توجيه الاتهامات والشتائم؟.. ألم أقل لك إنك لم تعد أنت؟ تذكر أنك منذ ثلاثة أعوام كنت تقرأ عما حدث لخالد سعيد وتهز رأسك فى غضب لما حدث لشاب برئ نضر هادئ الطباع. منذ أيام كتب لى أحد المثقفين فى عصبية وتوحش: «على فكرة أنا مؤمن دلوقت أن الواد ده كان بيبيع بانجو فعلا !».. بعد ثلاث سنوات صار البعض مستعدا لتصديق موضوع شهيد البانجو هذا!. لقد فقدنا أجمل ما فينا

ليس هناك دم أثمن من دم. دم اللواء نبيل فراج ثمين عطر مثل دم شريف. وكلاهما كان يمثل لأهله كل شيء. الدم المصرى واحد ومقدس.. وبالتأكيد ليس هناك نوعان من المصريين؛ لهذا رب ولذاك رب.. كما يقول مطرب شهير أعشقه فصدمنى بقوة. التكفير لعبة يلعبها اثنان، وهو يلعبها اليوم مسبلا عينيه فى شاعرية