لماذا فكرتِ في هذا يا مي؟ لماذا كنتِ أذكى من اللازم؟ هناك لحظات من الأفضل فيها للمرء أن يكون كفيفا أو أصم أو غبيا.. الفهم خطر ومخيف.. ألا ترين هذا؟ أسعد الناس حظا هم من ماتوا وهم لا يعرفون أنهم يموتون
كانت جالسة في ذات الوضع.. تفرك كفيها كأنها لم تسمع إجابة الرجل
كانت تبحث عن رد فعل مناسب
بدا كذلك أن الحضور جميعا قد أصابهم الخرس.. الحل الذي توصلت له بهذه السرعة قد صدم الجميع
كانت الصورة الآن قد صارت واضحة.. برنامج مزيف.. حيلة وكلام عن جائزة قيمة.. ناردين قد سلمتها لهم لأنها تعرف ظروفها، ولا شك أن كل واحد من الثلاثة قد جاء مخدوعا بدوره.. الحلقات التي رأتها على الكمبيوتر في بيتها مزورة وبريئة لخداع السذج
"غسان يوسف ولقاء أصدقاء نوفا ".. غ.. ي.. ل.. ا.. ن
وهذا يعني أن غسان وكل إدارة البرنامج يعرفون من هو الرجل المتواري وراء الستار.. ناردين تعرف.. المخرج يعرف
وما معنى هذا؟ وما الغرض منه؟
جاءت الإجابة عندما صاح غسان في مرح وهو يواجه الكاميرا:ـ
ـ مي هي التي استطاعت أن تخمن وهكذا فازت بالجائزة. بالفعل إن من يتوارى وراء الستار هو غول
نهضت السيدة قوية الشخصية ونهض مدير الحسابات البدين، لم يستطيعا الفهم حتى هذه اللحظة.. حتى لفظة "غول" نفسها لم يستطيعا فهمها
الغول يعمل ليلا.. عمله له علاقة بالموتى.. يعيش مع أسرة من الغيلان.. يحب مذاق اللحم جدا.. كل هذا صحيح
كان الفهم متأخرا جدا لأن الجمهور غادر المقاعد لينقضّ على المنصة التي يجلس عليها المتسابقون.. وتصاعدت زمجرة كزمجرة الدببة الغاضبة.. دوى الصراخ.. سوف أعفيك من التفاصيل فنحن في زمن دموي، فلن أفيدك إذا وصفت المشهد بدقة.. فقط نذكر أن الكاميرا كانت تسجل كل شيء
فقط كانت مي تصرخ بلا توقف وهي تتراجع غير مصدقة.. لم يمسها أحد كأنهم نسوها
كان غسان ضمن المهاجمين المنقضين على المتسابقين، وكانت ناردين ضمنهم.. وواجه غسان الكاميرا والدم يقطر من جانبي فمه وصاح:ـ
ـ الآن ندعوك يا مي.. أنتِ صرتِ واحدة منا.. ندعوك للانضمام إلى الحفل! نحن نعرف أن برنامج "غسان يوسف ولقاء أصدقاء نوفا" هو البرنامج المفضل لدى الغيلان، ولهذا لا يراه سوى قلة من المحظوظين لأن القناة مشفّرة.. في كل مرة ندعو ثلاثة متسابقين فإذا استطاع أحدهم التخمين في الوقت المناسب نجا وصار منا. إذا فشل ظفرنا بالجميع
ثم أشار إلى مي الواقفة في الركن فاتجهت الأضواء نحوها:ـ
ـ مي.. أنت منا
شاركينا يا مي.. تعالي هنا وتذوقي اللحم
لكن مي كانت تقف جوار كشاف عملاق.. بلا تفكير ركلته بقدمها فسقط أرضا وانفجر الزجاج.. يجب أن أفر.. يجب.. لكن أين وأنا في قبضتهم؟
ركضت وسط الديكورات.. هناك حبال على الأرض وأسلاك في كل مكان. تتعثر وتنهض.. وتبكي.. حبال غليظة.. تقع عينها على شاشة كبيرة فتدرك أن كل المشاهد يتم تصويرها.. الغيلان في بيوتها تراقب عذابها في سادية بالغة ومسرورة جدا.. هناك حبل غليظ أمامها.. تعرف من السينما حينما تدور الأحداث في كواليس مسرح أن فك هذا الحبل يؤدي إلى تهاوي جزء من
بالفعل.. جزء من الديكور قد سقط وسمعت صوت صرخات، بينما هي تركض عبر تلك الممرات المظلمة اللعينة. يبدو أن مصير القرمة والشاطور مدّخر للمتسابق الذي يفر لهذه الممرات.. أليس كذلك؟
اطلبي صبري يا بلهاء.. اطلبيه.. لا تعرف كيف سيجد مكانها ولا ما يستطيع عمله، لكنها قدّرت أن بوسعه أن يتصل بالشرطة قبل... قبل ماذا؟! مصيرها يتحدد خلال ثلاث دقائق.. الأمر لا يختلف عن المحكوم عليه بالإعدام وظهره للحائط ينتظر الرصاصة
شعرت بجسم يثب عليها.. سقطت أرضا شاعرة أنها تحت كلب مسعور يحاول الوصول لعنقها.. ناردين! لقد خرجت لها من مكان ما في الظلام وهي تحاول أن تبلغ عنقها.. لشد ما تغيرت! يمكن لمن لا يعرف معنى لفظة غول أن يرى ناردين الآن
ـ لا تقاومي يا حمقاء.. لن تستطيعي الفرار أبدا.. كل المطلوب منك هو أن تأكلي معنا
غرست مخالبها في وجه ناردين وصرخت:ـ
ـ أنت خدعتِني.. أنت قدتني هنا وكنت تعلمين
ـ لأنني فزت في البرنامج منذ عامين! نلت الجائزة.. وصرت كذلك منهم
القذرة قوية جدا.. لا جدال في ذلك. مدت يدها تتحسس الأرض وهي نائمة على ظهرها عاجزة عن الحركة. هنا لمست يدها ما بدا لها كأنها مطرقة ثقيلة تركها أحد عمال النجارة.. لم تتردد ورفعت المطرقة ثم هوت بها.. هوت بها على الرأس الذي يقترب من عنقها
أطلقت الفتاة صرخة حادة ثم تهاوت على الأرض
لم تستطع مي مقاومة العنف الذي استبد بها، فهوت على رأس ناردين بضربة ثانية. ثم نهضت وراحت تركض وسط الممرات المظلمة. تسمع صوت غسان يتردد من شاشة ما:ـ
ـ عودي يا مي.. أنت صرت واحدة منا
أطلقت سبة.. ثم واصلت الركض.. هناك باب
ضوء النهار.. حديقة صغيرة.. ثم الصحراء.. هل تجرؤ على أن تعتبر نفسها نجت؟
الأجمل أن هناك سيارة تتحرك من بعيد على الطريق الممهد وسط الرمال. هذه معجزة فعلا.. ركضت لتقف في طريقها بالضبط. توقف السائق بفرملة حادة فصاحت:ـ
ـ أي مكان بعيدا عن هنا
حسب تقاليد أفلام الرعب لا بد أن يكون هذا السائق منهم، لكنها وجدته عجوزا طيبا مذعورا فعلا.. فتحت الباب ووثبت جواره وهي تلهث كالغرقى ولم تترك له فرصة الاعتراض. إذ ابتعدت السيارة نظرت للخلف. رأت ناردين تركض خلف السيارة والدم ينزف من رأسها وقد لوث ثيابها فبدت كالكابوس
ما زالت حية؟! كيف؟
بعد ساعة من اللهاث والتوتر تركها السائق في مكان من الزمالك.. لا تعرف المكان بالضبط.. لكنها الزمالك على الأقل. وقفت بين المحلات المضاءة والناس ترمق منظرها المبعثر في دهشة.. طلبت صبري خطيبها.. تعال هنا وخذني يا أحمق
بعد ساعة جاء صبري بسيارة صديق له. لم يفهم ما حدث لها وبدا مذعورا مندهشا.. كان هناك مكتب قريب للصيانة هو أقرب لورشة صغيرة، يعمل فيه ليلا أحيانا. أخذها معه إلى هناك. وإذ جلب لها بعض المرطبات وساعدها على أن تهدأ قليلا، كانت قد شرحت له قصتها بالكامل.. لم يصدق حرفا لكنه وافقها حتى تهدأ
قالت له:ـ
ـ لم أفهم كيف عاشت ناردين هذه
قال وهو يصب لها المياه الغازية:ـ
ـ هذا سهل.. الغول لا يموت إلا بضربة واحدة.. حسب الأساطير الضربة الثانية تعيده للحياة من جديد! لهذا على المرء أن يقتصد في عدوانيته
ثم نهض ليعد لها بعض الشاي
جلست ساهمة بعض الوقت تتأمل المعدات والآلات الدقيقة المبعثرة فوق المنضدة.. تبدو مجنونة تماما بشعرها المنكوش والنظرة المتوحشة في العينين.. منذ ساعتين كانت متسابقة رقيقة تحلم بالفوز.. الآن هي هاربة من الغيلان وكادت تقتل أحدهم
وجدت أمامها جهاز التحكم عن بُعد الخاص بالتليفزيون الصغير المعلق على "كابولي" للجدار. ضغطت على زر التشغيل.. هنا أضيئت الشاشة. لم تكن هذه قناة عادية.. رأت شعار "نوفا" في ركن الشاشة وظهر وجه غسان الكريه.. كان يقول:ـ
ـ عودي لنا يا مي.. إن جائزتك تنتظرك
ارتجفت
هذه القناة ليست متاحة للجميع. معنى وجودها هنا على التليفزيون الخاص بصبري في مكتبه هو أن
مَن علّمه موضوع الغول الذي لا يموت إلا بضربة واحدة؟! هل هي مؤامرة كبرى؟! ربما كان صبري على علاقة بناردين منذ البداية وقد تلاعبا بها.. لقد كان صبري هنا في المكتب يراقب المسابقة ويضحك في وحشية
لا تعرف
وجدت على المنضدة ذلك المثقاب الضخم الذي يملكه صبري.. مدت يدها وتأكدت من أنه موصل بالكهرباء. سوف تثقب قلبه مرة واحدة ولن ينجو.. فقط عندما يعود للغرفة سوف تكون حاسمة وتنهي الأمر
حانت منها نظرة إلى التليفزيون فرأت صورتها ملتقطة من أعلى، ممسكة بالمثقاب.. شرسة منكوشة الشعر مجنونة النظرات مبعثرة الثياب.. لم تعد تمت لمي الأولى على الإطلاق ولو رآها طفل لظل يصرخ حتى يموت. هناك كاميرا في هذه الغرفة.. لا شك في هذا.. دائرة تليفزيونية مغلقة تنقل صورتها المذعورة للغيلان المشتركة التي تجلس أمام الشاشات تلتهم اللحم وتشاهد هذه التسلية الحية.. لا شك أنها قد أوشكت أن تكون غولا.. لقد تم كل شيء بسرعة
لكنها سوف تثقب قلبه بمجرد أن يدخل الغرفة
ومن التليفزيون سمعت صوت غسان يردد:ـ
ـ أنت ستصيرين منا يا مي.. بل أنت منا بالفعل.. هل تسمعين؟ أنت منا
تمت