فى مقال كتبته منذ شهور، قلت: «أذكر عام 1986 أننى كنت طبيب امتياز، وكنت أركب الحافلة فى الصباح عائدًا لدارى مرهقًا، إذ لم أنم الليل بطوله بعد نوبتجية سوداء.. دعك من البلطجى مدمن المخدرات الذى كاد يمزقنا بالمطواة أطباء وممرضات فى الثالثة صباحًا.. وكان فى جيبى خمسة جنيهات هى ما بقى من الراتب، (وهى تساوى خمسين جنيهًا اليوم)، بينما جلس خلفى رجل عالى الصوت يحكى لصديقه فى حماسة:
"هؤلاء الأطباء الملاعين الجهلة يحصل كل واحد منهم على ألف جنيه يوميًا، وفى مسكن الأطباء ينعم بأفضل فراش وأرقى الأكلات ويهمل المرضى تمامًا، ثم يذهب للقسم ليلاً ليضاجع الممرضات جميعًا ويسرق الأدوية... إنهم حطب جهنم !.."
طبعاً كان كلامه معجونًا بألف (ابن كذا) وألف صوت حلقى مستنكر وألف وصف لعورات الأمهات. بالطبع لم أقل شيئًا وأسندت رأسى للزجاج وغبت فى نوم عميق. هناك درجة من الظلم وخطل الرأى تجعلك عاجزًا عن قول حرف واحد»
كانت أمامى عشر سنوات حتى أركب أول سيارة فى حياتى، وست سنوات ورحلة عمل فى الخليج حتى أملك بعض المال يسمح لى بأن أقرع باب أسرة لأطلب يد ابنتها. تذكرت هذا المقطع عندما قرأت عن حملة إبراهيم محلب الأخيرة، ومسلسل (الزيارة المفاجئة – المستشفى فى حالة يرثى لها - الحزم والعقاب – الأطباء يحملون آثام الأمة كلها)، وهو مسلسل يحدث كل سنة ويُنسى كالعادة بعد شهرين.. ثم تتكرر المشكلة بعد عام آخر. منذ أسبوعين جاء محلب لافتتاح المستشفى التعليمى الجديد فى طنطا، وأنت سيد العارفين كيف تم رصف شارع العيادة الشاملة كالحرير، وطرد البائعين الجائلين، وغلق الغرز مع جمع أطنان الزبالة التى لم تُمس منذ قرون، ومنع الميكروباصات من غلق الشارع، ومنع عربة بيع خطوط فودافون إياها من سد الطريق وقتل المرضى بالصراخ فى مكبر الصوت، كما أبعدت التكاتك التى كتب الظرفاء عليها (خدمة نقل المرضى)، وتم عمل سرادق يغطى على الأكشاك لأنه لا يمكن إزالتها بسرعة. تحول الشارع لشارع فى بيفرلى هيلز حتى توقعت مرور سكارليت جوهانسن فى أى لحظة، إلى أن مرت الزيارة وبعدها عاد كل شيء، لكنه أقذر وأسوأ مما كان.
هذه هى القضية.. كل شيء فاسد وزائف ولا يمكنك تعليق كل شيء على شماعة الأطباء، برغم أن الناس تحب أن تشتم الأطباء جدًا، وتشعر فى هذا بلذة شبه جنسية كما رأينا مع الرجل الجالس فى الحافلة. يقول أحد الأطباء المحنقين فى الفيس بوك: «عرفتوا مين اللى خرب البلد؟ المقاولين اللى بيغشوا فى الأساسات ويوقعوا العمارات ويموتوا الناس؟ لأ. كبار رجال الأعمال أصحاب المشاريع الوهمية الاستهلاكية اللى بيشفطوا اقتصاد البلد فى كروشهم؟ لأ. كبار الموظفين اللى مابيعملوش حاجة غير إنهم ياخدوا نسبة من كل حاجة فتصل مرتباتهم إلى النصف مليون والمليون جنيه شهرياً؟ لأ. رجال الإعلام الذين يصبون الخـ (..) والوهم فى ودان الناس كل يوم وبياخدوا على كده ملايين الجنيهات سنوياً؟ لأ. رجال عصر مبارك اللى خدوا براءة من كل شيء وكافة شيء مستحوذين على المليارات من دم الغلابة؟ لأ. أمال مين اللى خربها؟ مين اللى يستاهل ضرب الجزمة؟ مين اللى مبوظ الخطط الخمسية والسداسية والسباعية؟ مين الشياطين ولاد الكلب دول؟
الجواب (والعهدة على الحكومة ورئيسها): الأطباء البشريين........ تاهت ولقيناها».
يقول طبيب آخر: «الدكاتره لو واحد فيهم عيادته شغالة فيه ألف دكتور غيره مستنيين مرتبهم آخر الشهر وألف تانيين متغربين عشان يصرفوا على ولادهم، اتشطروا على اللى واكلين البلد ومستوليين عل أراضيها وفلوسها ومناصبها.. اتشطروا على اللي مهربين فلوسهم بره البلد. الدكاتره اكتر فئة مطحونة فى البلد دى سواء فى المستشفيات الحكومية أو حتى فى عياداتهم».
يقول طبيب ثالث: « بالعقل كده....لما تلاقى وزارة العدل مثلا مثلا مثلا فى أقل من شهرين فقط تعتمد وتصرف التالى: بدل منصة قضاء شهريا من 10000-14000 جنيه. بدل عدوى 3000 جنيه شهريا. . ثم 200% زيادة فى الراتب شهريا من شهر 7....وصرف 4000 جنيه مكافأة لاعضاء النيابة والوكلاء. وزير التموين يروح يفتح مركز توزيع تموينى مخفض بنادى القضاة ومش يسكت... بل يصرخ قائلا القضاة من الفئات المتوسطة....طيب وأخبار كادر الاطباء إيه...بلح..طيب بدل العدوى...بلح.. طيب ضمونا لوزارة العدل. يترد عليك فورا وبوقاحة: "دى مطالب فئوية وخلى المركب ماشية ومش عايزينها تغرق". ويقوم منزلّك مقاول أنفار بفيلم هندى سخيف ليؤلب المرضى والشعب على الأطباء والمستشفيات اللى عايزة تغرق المركب....».
بالفعل أتمنى فهم موضوع بدل عدوى القضاة الذى يبلغ أضعاف أضعاف بدل عدوى الأطباء، وما المصادر التى تعرض القاضى للعدوى سوى أن يعطس المريض أمام المنصة؟. أذكر عام 1989 أننى كنت أركب القناة الوريدية لمريض التهاب كبد (ب) معد وتملص المريض، فانغرست القناة الوريدية فى كفى لتخرج من ظهر يدى، وبرغم هذا لم أستحق بدل عدوى وقتها. كأنهم أدركوا بفطنتهم أننى لن أصاب بشيء. ماذا عن أطباء مستشفيات الحميات والصدر وماذا عن اطباء المعامل الذين يلمسون ويستنشقون الجراثيم بلا توقف؟
مشكلة الطب فى مصر معقدة جدا، ولا يمكن حلها بلعبة القط والفأر هذه، ولا بجعل وزير الصحة يجلس فى المستشفى، مع أننى أعترف أن محلب رجل نشيط يؤدى عمله كأفضل ما يكون.. سوف يتكرر كل شيء بعد عام. ويجب ألا ننسى الوزيرة التى طلبت من الأطباء أن (يهشوا القطة) عندما شكوا من القطط فى المستشفيات، ويبدو أن أطباء المستشفى لم يهشوا القطط كما يجب قبل أن يدخله محلب. شكا الأطباء كثيرًا من نقص الامكانات.. شكوا من انعدام الأمن وبلطجة أهل المرضى، حتى أن بعضهم يبدأ بضرب الطبيب قبل أن يذكر شكواه. عرفت طبيبة ذهبت لمستشفاها فى موعد النوبتجية فنصحتها الممرضات بالعودة للبيت؛ لأن أهل المرضى يضربون بعضهم بالسكاكين فى الطابق الثانى وشرطة النجدة لم تأت كالعادة. بالطبع أوقفت سيارة أجرة وعادت لدارها. شكا الأطباء من قلة الدخل.. شكوا من كل شيء تقريبًا، فلم يهتم أحد. لكنهم هدف محبب لاستجلاب غضب الجماهير.. كأن الحكومة كلما غرقت فى المشاكل أشارت على الأطباء صائحة (بستك عليهم)، فينقض عليهم الجمهور الغاضب الذى يحب هذا جدًا.. جمهور فيه نسبة كبيرة من المدرسين المشغولين عن المدارس بالدروس الخصوصية، والموظفين المرتشين، والمتحرشين بالبنات، ونصابى علاج الأعشاب، والمقاولين اللصوص، وزارعى البانجو وبائعى الترامادول.. كلهم يتحولون لمواطنين صالحين نبلاء عندما نتحدث عن الأطباء.. إلخ...ترى ماذا سيراه السيد محلب لو زار غدًا أى مدرسة فجأة؟
كان انتقام الأطباء بسيطا ذكيًا وقاسيا هو أنهم نشروا على الشبكات الاجتماعية – حتى لا يفاجأ الوزير بعد هذا – صورًا حقيقية لمستشفياتهم، وانهيار الخدمات الكلى فيها والقذارة والقطط.. دائمًا القطط التى تخطف أفخاذ الدجاج من المرضى.. وهى صور مذهلة لكننا اعتدناها كأطباء طبعًا، وبح صوتنا طالبين أن يفعل أحد أى شيء. لا تقل إن الأطباء هم السبب فى هذا كله وهم سبب خراب الحمامات وغرف الجراحة ونقص الدواء وتداعى غرف الأشعة وتآكل الأسرة ونقص اسطوانات الأكسجين وعدم وجود أمن وتناسل القطط..إالخ. الفضيحة صارت عالمية وقد كتبت بى بى سى والصحف الاسرائيلية فى شماتة بالغة عن مستوى الخدمة الصحية غير الآدمى فى مصر.
عدالة التوزيع هى طريق الخلاص، وكذلك الإدارة الرشيدة.. لماذا كان مركز كلى المنصورة تحت قيادة العظيم محمد غنيم يتحرك كالساعة، ويبدو كأرقى مستشفى فى النرويج؟ هل استورد أطباء من ألمانيا؟ كانوا نفس الأطباء الذين يتلقون اللعنات والجزاءات الآن. لكنه رجل مخلص أحب عمله وأجاد فن الإدارة.