1- النبيل: قابلته للمرة الأولى فى الشارقة. المشكلة التى أعانيها دوما هى ميلي للانطواء والعزلة، لهذا لم أعرفه عندما اتجه نحوى ليصافحنى فى حرارة، بينما أنا أتساءل أين رأيت هذا الوجه الذكى الوسيم من قبل؟. قال لى بلهجة متواضعة تقريرية: «فؤاد قنديل .. روائي». وقد قالت لى الناشرة والروائية أمل فرج همسا بعد ذلك: «لقد ظلمتك .. كنت أحسبك تتجاهل الناس بسبب الغرور، ثم فطنت إلى أنك لا تعرف أحدا على الإطلاق!».
وهو ما يمكن ترجمته بـ (الحمدلله أنك جاهل ولست مغرورا!). هذا صحيح إلى حد كبير .. فأنا أعشق فؤاد قنديل وأعرف صوره جيدا، لكنى لم أربط بينها وذلك الرجل اللطيف. كان فؤاد قنديل أكبر بكثير من كلمة روائى التى قدم بها نفسه، بل هو مشروع ثقافى كامل .. قال لى إنه كان متوعكا بشدة فى الفترة الماضية، ولم أعرف أنها المرة الأولى والأخيرة لأنه سيرحل بعد شهر تقريبا. ليرحمه الله .. أعتقد أنه أكبر خسارة أدبية حلت بنا منذ رحيل الخال الأبنودى.
ننتقل إلى موضوعنا اليوم
2- الوحدة الصحية: عندما كنت فى الوحدة الصحية الريفية عام 1986، كنت أفحص الكثير من المرضى المجانيين، ولم أكن أفرق كثيرا فى المعاملة بين المريض المجانى والمريض الذى دفع ثمنا لكشف خصوصى، لهذا كنت أتلقى الكثير من الدعوات الطيبة، وقد اعتدت أن أدخل القرية فأرى النساء يطفئن (بوابير) الجاز بسرعة ويحملن أطفالهن الباكين ليهرعن للوحدة قبل نفاد التذاكر المجانية. حكيت هذه القصة فى فخر رومانسى لطبيب من أقاربى أكبر سنا وخبرة وأوفر مالا .. رجل (كسيب) فعلا.
قال فى خبث:
ـ«سوف تبنى خمس عمارات وتبتاع عزبة من هذه الدعوات ..!»
لم أفهم، فشتم أم المرضى بسبة بذيئة وقال:
ـ«الدعاء أسهل وأرخص من الدفع بكثير .. حركات باللسان .. سوف يمطرونك به، لكنه لن يتحول لمال ولن تتزوج أو تطعم به أسرتك .. فليلعنوك ويلعنوا أهلك .. فليتمنوا لك الويل والثبور .. لكن ليدفعوا مالا!»
كانت كلمات صادمة لهذا النسيج الرومانسى الذى صنعته حول نفسى، وتذكرت ظاهرة غريبة أقلقتنى نوعا هى أن أهل المريض يحملون مريضهم الموشك على الاحتضار إلى الوحدة، فإذا اكتشفوا أن التذاكر قد نفدت فضلوا أن يعودوا به لبيتهم بانتظار الغد، على أن يدفعوا ثلاثة جنيهات للكشف الخصوصى. هناك (استخسار) لا شك فيه لجهودى الصادقة. بعد هذا كبرت وازددت خبرة ووجدت أن جزءا كبيرا من كلام قريبى صحيح، لكن أحمدالله على أننى لم أعتمد على الطب فى الحصول على رزقى تقريبا، فالاختبار عسير. كانت لدى مصادر أخرى هى الكتابة وتخويف الشباب.
تذكرت هذه القصة وأنا أتأمل حال المثقفين اليوم. هناك أقلام كثيرة اعتبرتها الشرف مجسما وأنها لا تباع أبدا.. هناك معارضون لهم صوت عال رنّان كنا نحسبهم لا يهتزون. هناك من كانوا أيقونات للشباب يمكن أن تعلق صورهم كصورة جيفارا فى غرفتك.. عندما قامت ثورة يناير لم أكن هناك فى ميدان التحرير، لأننى خفت أن أختنق بالغاز مع حساسية صدرى، لكنى رأيتهم جميعا على الشاشات.. ومع انتصار الثورة وتحولها لكرة ثلج تتضخم ازدادوا حماسة وثورية حتى شعرت أننى المتخاذل الوحيد فى مصر. لقد ظفر هؤلاء الكتاب والمفكرون بثقة الشباب وحبهم واحترامهم، وبدا أن الثورة سوف تفرز زعامات منهم ..
بدأت الثورة تذوب فى صراعات داخلية بين عناصرها وجنون المليونيات ومؤامرات الدولة العميقة، ثم تتراجع ثم تنكمش ثم تنهزم.. الخطأ التاريخى كان التحالف مع أباطرة نظام مبارك، وبعدها أزيح الثوار وسيطر رجال مبارك على كل شيء، وكان الانتقام من ثوار يناير مرعبا واعتبرت حركة 6 أبريل صانعة ثورة يناير إرهابية.
مع الوقت قرر المفكرون والكتاب الاختيار.. عرف كثيرون منهم بالخبرة المعسكر الفائز والمعسكر الخاسر، وقرروا ألا يكونوا مع الخاسرين. لقد قرروا أن دعاء المرضى لا نفع منه ولا يبنى العمائر ولا يبتاع القرى السياحية ولا القصور .. بالمثل احترام الشباب وتقديرهم لا قيمة له ولا يترجم لمال.
هكذا اختاروا معسكرهم الجديد إلى يمين السلطة .. اختاروا النفوذ وحساب المصرف المتضخم. لا يهم أن الشباب تلقى صدمة مروعة، ولا أنه يلعنهم فى الشبكات الاجتماعية .. لا أهمية لهذا . المهم أن يرضى عنهم صانع القرار. لقد تصرفوا بالضبط مثل قريبى الذى سب أمهات المرضى لأن دعاءهم لا جدوى منه ولا يمكن إيداعه فى المصرف..
البعض ظل شريفا كما هو حتى إن اختلفت معه ودفع الثمن باهظا ..
فى كل يوم ألغي أسماء جديدة من قائمة أبطالى الشخصيين، وأكف عن قراءة المزيد من المقالات والأعمدة اليومية والأسبوعية، حتى لأوشك أن أحصر قراءتى فى مجلة ميكى، لولا أن وجدت أعداد مايو 1967 حيث يتم تمجيد عبد الحكيم عامر وعبد الناصر لدرجة الآلهة، وهو غسيل مخ للأطفال غير مسبوق.
تذكرت هذا كله عندما رأيت زيارة السيسى لألمانيا وذلك المذيع الذى صدر ضده حكم بالسجن وبرغم هذا غادر البلاد وظهر وهو يهتف مع الفنانين . هذا رجل اختار معسكره حيث الثروة والنفوذ ويعرف ما يفعله بالضبط، والنتيجة أن ضابط المطار لم ينظر للجواز ليقول: «لحظة معانا لو سمحت». المناخ كله ذكرنى بحالة (الأيوفوريا) العامة التى كانت تدفع النساء الوقورات للرقص عشرة بلدى أمام لجان الانتخاب. لا أعرف تـأثير هذا على الألمان لكنهم بالتأكيد أذكى من أن يتأثروا بهذا المهرجان. لن يتأثروا أكثر مما تأثر أوباما وارتجف خوفا من السيدة التى تقول له: «شات يور ماوس أوباما».
المشكلة هى أن الرأى الآخر قد اختفى تماما، فإما أنه آثر الصمت خوفا أو غادر البلاد أو منع من الكتابة. هناك إعلام يتكلم فيه الرجال (أ) عن القضايا (أ) ويستضيفون ضيوفا من المعسكر(أ) ويتلقون مكالمات هاتفية من (أ) ويذيعون أغانى من (أ).. وكلهم قد اختاروا مكانهم ولا يريدون دعوات أو احتراما لا قيمة لهم من شعب مزعج لا خطر منه، وهذه علامة مقلقة تنذر بكارثة.