يعرف دكتور يوسف زيدان تقديري البالغ له، إن لم يكن على جهده المضني الذي يبذله في البحث والتوثيق، فعلى أعماله الأدبية التي أضع على قمتها عزازيل فالنبطي. لهذا يدرك جيدًا انني أتكلم من نفس الجانب وبدافع الصداقة والاحترام، ولا دافع لي سوى أن (دماغي كده).
كثر الكلام عن الرأي الذي أبداه دكتور يوسف مؤخرًا بصدد المسجد الأقصى، ولن أخوض في التفاصيل باعتباري لم أدرس الموضوع جيدًا ولست مؤهلاً للكلام عنه، وإن كنت قد قرأت مؤخرًا كلامًا كثيرًا لباحثين مدققين مثله يفندون ما قال. الرأي الذي قلته وأقوله دائمًا إن هذه المناقشات التي تمس صلب معتقدات الأمة وأثمن ما لديها تضر أكثر مما تفيد. اليوم يتحدث د. يوسف عن أن المسجد الأقصى ليس هو الذي يدافع عنه الفلسطينيون ويموتون من أجله.. هم يموتون فقط لأنهم يجدون هذا مسليًا أو لأنهم ضعفاء في التاريخ. يبرز د. سيد القمني ليقول إن الإسلام كله ليس دينًا بل دعوة سياسية حاول بها الرسول عمل امبراطورية.. أكثر من كاتب قال إن عبد الناصر عميل أمريكي وثورة يوليو كلها عملية مخابرات ناجحة.. السد العالي دمر الزراعة في مصر.. هيكل يتحدث عن نصر 1973 الذي أحاله شارون هزيمة، وكيف دمّر السادات أحلام الجيش. أنيس منصور يأخذ منك بناء الأهرام ليعطيه لكائنات فضائية غامضة.. ثورة يناير 2011 مؤامرة قذرة تم التدريب عليها في الصرب... إلخ....الخطوة القادمة المؤكدة هي إن فلسطين إسرائيلية شاء من شاء وأبى من أبى. صدقني هي لحظة آتية.
كل شيء يتآكل تحت أقدامنا. هل هذا وقت كل هذه الدقة العلمية التي لا تُطرح أمام رجل شارع لا يقرأ الرأي والرأي الآخر؟ هذا أسوأ وقت ممكن لهدم المسلمات. قال لي صديق كاتب متعمق في القراءات الإسلامية إن كتب الفقه تحوي جدلاً حول الخمر، وقيل إن التحريم ينطبق فقط على الخمر المتخذة من عصير العنب، وأما سائر الأنبذة من غير العنب فقد اختلفوا في القليل الذي لا يُسكر منها. قال لي هذا الصديق إن هذه قضية لا ينبغي طرحها إلا على المتخصصين مهما كان حرصك على الدقة العلمية، وإلا لتحوّلنا إلى دولة من السكارى. نفس المنطق ينطبق على حالتنا هذه.
كنت قد كتبت مقالاً قديمًا حول هذه النقطة، وكان يتحدث عن صلاح الدين الأيوبي كما رآه دكتور يوسف بعد ما رأى فيلم يوسف شاهين الشهير الذي يصرخ بالقومية. أعتقد أن هذا المقال ما زال صالحًا للموقف الحالي، وأطلب الإذن من القارئ الكريم أن يسمح لي بنشره من جديد مع حذف ما لا لزوم له هذه المرة:
في عدد 22 سبتمبر من جريدة "المصري اليوم" يواصل د. يوسف سلسلته (أوهام المصريين) التي انتوى أن تكون سباعية من الحلقات، ويحمل المقال اسم (الناصر أحمد مظهر) مقال بديع كالعادة وينطق بموسوعية الرجل.
ينتهز د. يوسف زيدان فرصة المقال ليزيل عن أذهان العامة بعض الخرافات العالقة بشخصية صلاح الدين الأيوبي، وهو يبدأ الكلام قائلاً بقسوة: "والتجارة فى الأحلام، من أربح التجارات (وأكثرها خِسَّةً)" وهذه العبارة تلصق تهمة الخسّة بحشد لا بأس به من فنانينا الذين تعاونوا على تقديم فيلم الناصر صلاح الدين؛ ومنهم نجيب محفوظ و عبدالرحمن الشرقاوى ويوسف شاهين، ثم يقول:
- صلاح الدين الأيوبى، كان قائداً خائناً للسلطان نور الدين الذى أرسله على رأس الجيش من دمشق إلى مصر لتأمين حدودها ضد هجمات الصليبيين، فترك الأمر ومهَّد لنفسه السلطة.
- العجيب الدال على شخصية صلاح الدين، أنه كان فى الوقت ذاته قائداً من قوَّاد السلطان نور الدين (السُّنىِّ) ووزيراً للحاكم الفاطمى لمصر (الشيعى) مع أن الدولتين كانت بينهما خلافات لا تقلُّ عمقاً عما كان بين المسلمين أصحاب الأرض.
- بعد مناورات كثيرة، ومداورات، اضطر صلاح الدين الأيوبى إلى اقتحام القدس. ولم يفلح فى انتزاعها من قبضة الصليبيين إلا صُلحاً.. ثم أعادها الأيوبيون ثانية إلى الصليبيين كهدية، سنة ٦٢٨ هجرية!
كل هذا غير جديد وقد قرأته كثيرًا، وأذكر أن جريدة الدستور، الإصدار الأول، خصصت عددًا لهذا الموضوع، ومنه عرفت أن لفظة (استكرده) العامية معناها (عامله معاملة الأكراد للمصريين) أي (خدعه). وصلاح الدين كردي طبعًا. كان صلاح الدين جزءًا من سيناريو انهيار الدولة العباسية لكننا في النهاية نعرفه كالرجل الذي استعاد القدس.
لا توجد شخصيات بيضاء أو سوداء في التاريخ، بل هناك الرمادي بدرجاته، وفيلم صلاح الدين لم يقدم سوى البياض الساطع الشبيه بأثواب الحجاج، بينما مقال د. يوسف زيدان لم يقدم سوى السواد. لا مشكلة عندي كذلك، فالرجل باحث مدقق ولديه أسبابه بالتأكيد، ولكن لماذا يجب أن يقرأ غير المتخصصين هذا الكلام؟ وماذا يمكن أن يستخلصه رجل الشارع منه؟.. سألخصه لك:
"كل انتصاراتك وهمية يا صاحبي.. تاريخك ملفق.. أنت من (صنف واطي) غير جدير بشيء، وفي تكوينك الجيني خلل أصيل لا شفاء منه.. كف عن أغنية (مَن للقدس بعدك يا صلاح الدين؟) لأنه لا أساس لها من الصحة، وحتى اسمي القدس وأرشليم لم يكونا موجودين في ذلك الوقت. لقد أخذنا منك الأهرام وأعاجيب الفراعنة فقد صنعها رجال الفضاء أو قوم عاد، وحرب أكتوبر هي هزيمة مروعة، وتأميم القناة خطأ فادح، واليوم نثبت لك أنه لا انتصارات فيما تعتقد أنه تاريخك الإسلامي المجيد..".
جلد ذات لا ينتهي، قد يبدو لذيذًا شهيًا للمصابين بالماسوشية، لكنه يترك الباقين بلا أمل..
التاريخ علم يخضع – كأي علم – للجدل والتغيير والانقلابات، وأنا أؤمن أنه لابد من أن يتم طرح كل شيء في قاعات الدرس والمحاضرات، لكني أؤمن كذلك بأنه لا ينبغي طرح كل شيء على صفحات الجرائد. ما نفعله نحن بهذه الدقة الأكاديمية الرهيبة هو هدم آخر حجر نقف عليه.. نحرق بقايا الطوف الذي يعبر بنا عباب المحيط..
لقد قرأت في جريدة الدستور، الإصدار الأول، مقالاً طويلاً يثبت أن سعد زغلول كان مصابًا بداء القمار، وقرأت في مجلة الهلال في الثمانينيات أن أحمد عرابي كان على درجة من الغباء والوهن العقلي مما أدى لفشل ثورته، وقرأت في الدستور الجديد عن شاعر الرسول حسان بن ثابت أنه أصابه الرعب أثناء الحرب فتوارى، وراحت النساء يدافعن عنه! السؤال هنا: ما جدوى معرفة هذه المعلومات؟
رجل الشارع لن يبحث أبدًا عن رأي مختلف أو يحاول تفنيد المكتوب. وهذه هي نقطة الاختلاف عن الأكاديمي الذي يعرف بالضبط ثقل – أو خفة – المعلومة التي يطالعها. هناك كلام مكانه قاعات التدريس بالجامعة والرسائل الجامعية وأقسام الأديان المقارنة.. إلخ.. أو على الأقل النشر في طبعات مخصصة للأكاديميين. لكن ليس بين العامة.
هل أقصد أنه لابد من وجود رقابة على التاريخ الذي يقدم للناس؟.. طبعًا.. أنت قد فهمتني فعلاً.
هناك مقولات أؤمن أن قيمتها لا تتجاوز اهتزازات طبلة الأذن لسماعها، ومنها أن الرقابة شريرة على طول الخط.. الرقابة الرشيدة الواعية الأمينة قد تفيد المجتمع فعلاً. مهما كلمتني عن حرية العقل فأنا لن أترك كتبي الطبية بما فيها من صور عارية ومعلومات ليطالعها ابني المراهق. سوف أختار له كتبًا تقدم معلومة صحيحة مهذبة ولن أكذب عليه أبدًا. قرأت كثيرًا عن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، وخيل لي أنهم ملائكة من فرط حرص المؤرخين الأمريكيين على عدم إلصاق أي نقيصة بهم. فقط عندما تتوغل في التاريخ أكثر تعرف خلافات إبراهام لنكولن مع زوجته السوقية، وفضائح بنيامين فرانكلين وتوماس جيفرسون وأولادهما غير الشرعيين. فرانكلين رتّب عملية اعتقال ابنه لأنه مخلص لبريطانيا، وواشنطن كان يتحاشى أمه لأنها كانت تهينه أمام الناس عمدًا.. هذه الأشياء تعرفها بصعوبة بالغة مع تأكيد واضح على أن هذه القصص مختلقة على الأرجح. إذن لماذا نصر نحن على هذه الدقة الأكاديمية العتيدة؟
د. يوسف.. لو كان لي أن أبدي رأيًا فيمن هو في مقامك وعلمك، فلتسمح لي بأن أقول إنك اخترت المكان والوقت غير المناسبين لطرح هذا الموضوع في هذه الأيام السوداء وثقة المصري مهتزة بنفسه وعروبته، فلا يقف إلا على خيط اسمه (تاريخه المجيد). فلو برهنت له بشكل ما على أن تاريخنا ليس مجيدًا لهذا الحد، فأنت لا تساعده على أن يفيق.. أنت تمنحه ضربة الرحمة coup de grace التي ستدفعه إلى الهاوية السحيقة التي تنتظره في شغف.